الفقه

ضوابط التعامل مع الاختلاف بين العلماء

هناك أمور ينبغي على كل من يتعرض لمسائل الخلاف بين العلماء أن يكون على معرفة بها حتى لا يقع في الحيرة والشك أو الخوض في العلماء بغير حق، وهذه الأمور هي أصول لابد من معرفتها منها:

طلب الحق

إن الله أمر عباده أن يخلصوا العبادة له، وألا يبتغوا من وراء أي عمل من أعمالهم إلا وجه الله -عز وجل- قال الله تعالى: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

وقال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

فالإنسان ينبغي عليه أن يكون الباعث له عند النظر في المسائل التي اختلف العلماء فيها هو معرفة الحق والعمل به، لا أن تكون العصبية والانتصار للمذهب هما الباعث الذي يحركه، حتى لا يكون كمن يعرفون الحق ويكتمونه، فقد ذم الله هؤلاء الذين عرفوا الحق وجحدوه ووصفهم بالمفسدين، فقال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

فالحق لا يعانده إلا من اتبع هواه، واتباع الهوى في الشرع مذموم؛ لأن صاحبه معاند للحق مخالف له، وقد ذم الله ذلك فقال: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

حسن الظن

أوجب الله على المؤمنين أن يحسنوا الظن بأنفسهم؛ لأن سوء الظن باعثه التباغض والتحاسد، وبين الله أن سوء الظن بالمؤمنين إنما هو إفك واضح، قال الله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ).

وبين الله –تعالى-أن بعض الظنون توقع صاحبها في الإثم؛ لأنها لا أساس لها وإنما هي محض أكاذيب وأوهام، قال الله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).

ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عن سوء الظن فقال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).

فإذا كان كل هذا التشديد في النهي عن سوء الظن بعموم المؤمنين فما بالك بالعلماء الذين جعل الله لهم المنزلة الخاصة حيث قرن الله شهادتهم بشهادته فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وبين الله تعالى أنه يرفع المؤمنين عنده درجات ثم خصص ذكر العلماء بعد ذكر المؤمنين مع أنهم يدخلون تحت مسمى المؤمنين لمزيد فضل لهم على غيرهم فقال الله: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

لذا ينبغي ألا يكون سوء الظن بالعلماء هو الطريق السهل الذي يسير فيه الإنسان، ويكون أول ما يطلقه المخالف على من يخالفه في مسألة من المسائل،

وهذا ليس معناه أن نظن بهم العصمة أو أنهم لا يخطئون أو أنهم لا يضلون فالله قد وصف قوما بالضلال وهم على علم فقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

ضوابط التعامل مع الاختلاف بين العلماء

معرفة القطعيات والظنيات

ينبغي على كل من يتعرض للنظر في الأحكام الشرعية أن يعلم أن القضايا الشرعية تنقسم إلى قسمين:

1 – قطعيات لم يختلف فيها العلماء؛ لذلك يجب التسليم لها،وهي الأمور التي ثبتت بأدلة قطعية الثبوت والدلالة أي اتفق العلماء على ثبوتها وعلى المعنى المراد منها، مثل أركان الإيمان التي ذكرها الله أصولها في قوله: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

وأركان الإسلام الخمسة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم-في قوله: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ).

وتحريم الزنا والخمر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وما أجمع عليه العلماء من قواعد التشريع فكل هذه مسائل قطعية لا خلاف فيها بين العلماء؛ لأن أدلتها التي دلت عليها قطعية الثبوت وقطعية الدلالة.

2 – الظنيات وهي محل اختلاف واجتهاد بين العلماء، ومثل هذه القضايا هي التي دعا الشرع إلى التأمل والنظر وإعمال العقل فيها، قال الله: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

فما جاء الشرع إلا من أجل أن يعمل الناس عقولهم؛ لذا عاب الله على الذين أهملوا تلك العقول فقال: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ).

اختلاف العقول والأفهام

من سنن الله التي فطر الناس عليها اختلاف الأفهام والعقول التي يمكن أن تتفق على أصول الأشياء لكنها تختلف في فروعها، واختلاف الأفهام يترتب عليه تنوع الأفكار قال تعالى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

لذلك بين الله –تعالى-ما ينبغي على الناس إذا اختلفوا في أمر من أمور الشرع أن يرجعوا إلى أهل العلم؛ لأن فهمهم سيكون الأقرب لمراد الشرع، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِإِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).

وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أن نتيجة الاجتهاد المبني على العلم والمعرفة الذي يراد منه الوصول للحق صاحبه مأجور سواء أصاب أو أخطأ، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر).

وما ورد من الاختلاف مذموما في كتاب الله وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-إنما هو الاختلاف الذي لا ينبني على أصول التشريع ولا يكون المقصود من ورائه الوصول للحق وإنما يكون باعثه الهوى والتعصب.

معرفة المدارس الفقهية المختلفة

لابد للناظر في العلوم الإسلامية أن يعلم أن العلماء الذين نقلوا لنا علوم الشرع على قمسين:

1 – علماء الحديث وهؤلاء يسمون بالمحدثين الذين اهتموا ببيان الصحيح من الضعيف مما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-بمعرفة أحوال الرواة ونقد الأسانيد والمتون حتى يحفظوا لنا السنة من أي دخيل عليها مما ليس منها، فوضعوا لنا الكتب التي بها يعرف  الصحيح الثابت من سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والضعيف الذي لم تتوافر فيه شروط الصحة، والموضوع المختلق المصنوع الذي نُسِب زورا وبهتانا للنبي –صلى الله عليه وسلم- من الزنادقة والملحدين، ووضعوا لنا علوم الحديث التي تساعدنا في الوقوف على مثل ما وقفوا عليه.

2 – والفقهاء وهم الذين اهتموا بدراسة المتون واستنباط الأحكام منها، واهتموا بمعرفة أمور الحلال والحرام فهؤلاء ينبغي علينا الرجوع إلى أقوالهم والوقوف عند أحكامهم، قال الله –تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ).

هذه بعض الأمور التي ينبغي على كل من ينظر في مسائل الخلاف أن يكون على علم بها حتى لا يقع فيما يخالف مراد التشريع الذي وضعه الله لعباده.

للاطلاع على المزيد:

مواضيع ذات صلة