تحدثنا الآيات من سورة مريم عن مواجهة السيدة مريم لقومها بمولودها، بعد أن ولدته، وكيف تكلم عيسى ابن مريم بما يدل على براءة أمه مما نسبوها له، وتكلمت الآيات عن الأحزاب التي ضلت في شأن المسيح عيسى -عليه السلام-.
مجيء مريم بعيسىى لقومها
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧)
لما قال عيسى لأمه ما قال، واطمأنت نفسها لقوله، أتت بولدها تحمله من هذا المكان البعيد من غير طلب منهم لها.
فلما رأوا ولدها وهم يعلمون أنها غير ذات زوج، اتهموها بأنها جاءت بأمر عظيم منكر، حيث وبخوها واتهموها بأنها أتت به بطريق غير مشروع، بدليل قول الله: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً).
معنى نسبة مريم لهارون
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
زادوا في توبيخها مرة أخرى، حيث نسبوها لهارون، وهو ليس هارون أخو موسى -عليهما السلام- وإنما هو رجل صالح من قومها نسبوها له في صلاحه. وقيل: كان لها أخ يسمى بهارون.
ما كان أبوك رجل سوء وما كانت أمك امرأة بغي تأتي الفواحش وتقترف الزنا، ويقال: بغت المرأة إذا فجرت وتركت طريق العفة والطهر.
مريم تشير على رضيعها
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)
لما قال قوم مريم لها ما قالوا اكتفت بالإشارة إلى مولودها، فتعجبوا من صنيعها، واستنكروا عليها، كيف يكلمون من كان في مهده وهو موضعه الذي يعد له، وفي حال رضاعه وهو صبي صغير لم ينطق لسانه.
إقرار عيسى بأنه عبد لله
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
فأنطق الله عيسى -عليه السلام- ليروا تلك المعجزة الناطقة ببراءة مريم مما رموها به، فكان أول ما نطق به عيسى -عليه السلام- أن قال:
إنه عبد الله خلقه الله كما يخلق كل الأشياء، والله ليس في حاجة لتلك الأسباب التي اعتدتم عليها، وإنما يخلق بغير هذه الأسباب لتروا عجائب قدرة الله.
وقدم وصف العبودية ليؤكد على بطلان ما ادعاه الداعون من ألوهيته.
آتاني الكتاب في سابق علمه، وهذا الكتاب هو التوراة والإنجيل، فإن عيسى -عليه السلام- جاء مكملا ومتمما للتواراة ببعض الأحكام في الإنجيل فقال الله عنه:
(وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)
وجعلني واحدا من أنبيائه الذين يبلغون رسالته للناس، وجاء التعبير عن المستقبل بالماضي لتأكيد تحقق وقوعه، كما في قول الله: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) أي أنه آت لا محالة.
التزام بعيسى بعبادة ربه
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١)
ومع جعل الله لي رسولا، جعلني كثير البركات والخيرات، فأينما حللت كنت خيرا وبركة، وأمرني بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ما دمت حيا في هذه الدنيا.
بر المسيح عيسى بأمه مريم
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢)
وجعلني ربي في سابق علمه في الأزل بارا بوالدتي قائما بحقها محسنا لها، ولم يجعلني في سابق علمه متكبرا على عباده، ولا على أمي، ولو فعلت ذلك لكنت شقيا في الدنيا والآخرة.
السلام عل عيسى ابن مريم
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
وخصني ربي بالسلام والأمن يوم ولدت، ويوم أموت في القبر، ويوم أبعث يوم القيامة حيا، لا أرى شيئا من أهوال يوم القيامة.
قول الحق في المسيح عيسى
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤)
لما أعلن عيسى -عليه السلام- أنه نبي من أنبياء الله، وأكد على أنه نبي مرسل من عند الله، وليس إلاه ولا ابن إله ولا ثالث ثلاثة،
جاء التعقيب مباشرة على ذلك بأن هذا هو القول الحق في عيسى ابن مريم، وأنه ليس كما يقول النصارى من ادعاء الألوهية له، ولا ما ادعاه اليهود من رمي أمه بالزنى وشكهم في أمره.
تنزيه الله عن الشريك والولد
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
ما كان ينبغي لله أن يتخذ ولدا تنزه الله عن اتخاذ الولد والشريك، فإنما يحتاج الولد من كان عاجزا محتاجا، والله تعالى منزه عن العجز والحاجة، إنما إذا تعلقت مشيئة الله بأمر من الأمور أوجده بقوله له كن فيكون.
العبادة لا تكون إلا لله
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
هذا الكلام من تتمة كلام عيسى -عليه السلام- أن الله الذي أدعوكم إليه هو ربي وربكم ورب كل شيء ومليكه.
فاعبدوه والتزموا طاعته فإن هذا هو الطريق المستقيم الذي يوصلكم لمرضات الله.
وبعد أن تكلم عيسى -عليه السلام- وأثبت براءة أمه مما رماها به اليهود عاد لحالته الطبيعية، وهي حالة الأطفال، فلم يتكلم إلا في وقت الكلام الطبيعي.
فلم يصم ولم يصل وهو ابن يوم أو يومين، ولو استمر عيسى -عليه السلام- على الكلام لكان هذا قد عرف واشتهر أمره بين الناس.
اختلاف اليهود والنصارى في عيسى
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)
بعد أن وضح عيسى -عليه السلام- الحقيقة في شأنه كاملة اختلف الحزاب في شأنه فطعنت اليهود في نسبه ونسبوا أمه إلى ما لا يليق بها.
وغالت النصارى في شأنه فمنهم من قال: هو الله تجسد في صورة بشر. ومنهم قال: هو ابن الله. ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة.
ثم هدد الله هؤلاء الكافرين الذين قالوا في شأنه غير الحق والصواب بمشهد يوم القيامة المفزع لهم جزاء على عدم اتباعهم للحق وتغييرهم للحقيقة.
وأجل الله عقوبتهم ليوم القيامة حتى يمهلهم لعلهم يتوبوا لكن الله لا يهمل حسابهم.
رؤية الحقيقة كاملة يوم القيامة
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨)
فلا أحد من الناس يكون أبصرا ولا أقوى سمعا منهم يوم القيامة بعد أن كانوا في الدنيا عميا وصما.
لكن الظالمين في الدنيا في ضلال واضح حيث ادعوا الألوهية لعيسى، مع أن الحقيقة واضحة، فهو بشر مثلهم، حملته أمه كما حملتهم أمهاتهم، وكان في احتياج لأمه.
والإله الحق يستحيل عليه أن يكون في حاجة؛ لأن الاحتياج دليل العجز، والعاجز لا يكون إلها، لكنهم في الآخرة سيرون الحقيقة كاملة حين يعاينون العذاب.
يوم القيامة هو يوم الحسرة
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩)
وأنذر هؤلاء الظالمين في يوم القيامة، وهو يوم الحسرة حيث يتحسر المسيء على إساءته، ويتحسر لأنه لم يحسن عمله،
ويتحسر المقصر أنه لم يزدد من الخير، وهم في الدنيا في غفلة عن هذه الحقائق، ولا يصدقون ببعث ولا حساب ولا جنة ولا نار.
كل شيء مرجعه إلى الله
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠)
الله هو الوارث الذي يرجع إليه كل شيء، فيرث الأرض وما عليها، فهو المالك لكل شيء، وهو الباقي الذي لا يلحقه فناء، وإلى الله مرجع ومصير الخلائق للثواب والعقاب.
للاطلاع على المزيد:
- سورة مريم كاملة مكتوبة بالتشكيل
- سورة مريم نزولها وسبب تسميتها وموضوعاتها
- قصة مريم والمسيح عيسى ابن مريم من سورة مريم
- قصة نبي الله زكريا ويحيى عليهما السلام من خلال سورة مريم
- دعوة نبي الله إبراهيم لأبيه وقومه سورة مريم
- قصة موسى وإسماعيل وإدريس من سورة مريم
- حال المتقين والمجرمين في الآخرة، ومناقشة من يدعون لله ولدا
- تعرف على وصف الله لحال المؤمنين ومناقشة المنكرين للبعث
- تعرف على أوصاف أهل الضلال وعباد الرحمن في سورة مريم
- موضوعات الجزء السادس عشر في سورة الكهف ومريم وطه