القبلة في اللغة معناه الجهة التي يتوجه إليها الإنسان، ثم صارت تطلق في الحقيقة الشرعية على الكعبة المشرفة التي يتوجه إليها الإنسان في صلاته، وهي قبلة كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
متى كان تحويل القبلة
قال أبو شهبة: قد كان التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة في منتصف شهر رجب على الصحيح، وبه جزم جمهور العلماء، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس.
وذهب البعض إلى أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو قول ضعيف. السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة.
بيت المقدس هو أولى القبلتين
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوجه في أول الأمر لما فرض الله عليه وعلى أمته الصلاة إلى بيت المقدس، وظل يتوجه في صلاته إلى هذه القبلة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، بعد ان هاجر إلى المدينة.
البيت الحرام هو ثاني القبلتين
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوجه في صلاته لبيت المقدس استجابة لأمر ربه، لكنه كان يحب أن يجعل الله قبلته في الصلاة جهة البيت الحرام، وهي قبلة أبيه إبراهيم، وأن يحول الله وجهه عن قبلة اليهود.
فأنزل الله قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
عن البراء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال أخواله من الأنصار،
وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت،
وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال:
أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت، أنكروا ذلك.
قال زهير: حدثنا أبو إسحاق عن البراء في حديثه هذا: أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: (وكان الله ليضيع إيمانكم)[البخاري]
البيت الحرام بناه آدم
البيت الحرام الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يتوجه إليه إنما بناه آدم -عليه السلام- ورفع قواعده نبي الله إبراهيم مع ولده إسماعيل.
قال الله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وبين الله أن أولى الناس بنبي الله إبراهيم هو محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه، فقال الله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).
وهذا رد على أهل الكتاب الذين نسبوا نبي الله إبراهيم لهم فمنهم من قال: إنه يهودي ومنهم من قال: إنه نصراني فرد الله عليهم قولهم قبل هذه الآية السابقة فقال: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
موقف الناس تجاه تحويل القبلة
اختلفت ردود الأفعال تجاه تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، فأما المؤمنون فكان موقفهم واضحا وصريحا أنهم استجابوا لأمر الله سواء وافق هواهم أو خالفه، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فهذا هو حال المؤمنين دائما تجاه أوامر الله، قال الله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
قال ابن القيم: وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا، يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق.
وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء.
وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل،
وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال الله تعالى: (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه.
رد الله على منكري تحويل القبلة
رد الله على كل هؤلاء الذي استنكروا تحويل القبلة من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، فوبخهم ووصفهم بأنهم سفهاء.
فسفاهة المشركين في اعتقادهم أن محمدا سيتبع ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام.
وسفاهة هؤلاء اليهود الذين استنكروا عليه التحول في قبلته من بيت المقدس للبيت الحرام وأنه لو كان نبيا حقا ما خالف قبلتنا، فهل آمنتم أيها اليهود به لما كان على قبلتكم.
وسفاهة المنافقين الذين ظنوا أنه كان على باطل في إحدى الحالتين؛ لأنهم لم يربطوا الأمور بأمر الله الذي ينبغي أن يتقلبوا معه حيث كان.
فالمشرق والمغرب لله فأينما يولي الإنسان وجهه فثم وجه الله، فقال الله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
قضية النسخ
لأن أمر تحويل القبلة كان عظيما مهد الله لها بالكلام على قضية النسخ قبل ذلك، في قول الله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
والنسخ معناه هو إلغاء الحكم السابق بحكم جديد، لحِكَم يعلمها الله.
فليس معنى النسخ أن الله كان لا يعلم الصواب حتى لغاه بحكم آخر ، وإنما لحكم كثيرة قد نعرف بعضها ويغيب عنا بعضها.
وذلك كالطبيب الذي يعطي المريض دواء مناسبا لحالته المرضية وهو يعلم أنه سيغير هذا الدواء بعد أن تتحسن حالته الصحية؛
ليكون قادرا على استقبال نوع آخر من الدواء، فهو لم يكن جاهلا من البداية أنه سيغير الدواء وإنما كان مدركا لكل الأمور من بداية الأمر لكن أعطى كل دواء للحالة المناسبة.
اختبار إيمان المؤمنين
بين الله أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام كان بمثابة اختبار لإيمان المؤمنين، وقد نجح المؤمنون في هذا الاختبار.
لكن رسب فيه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون، وكان أمر تحويل القبلة كبيرا عليهم، فقال الله: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ).
مسجد القبلتين
يسمى مسجد قباء بالمدينة بمسجد القبلتين؛ لأن الناس كانوا يصلون فيه جهة بيت المقدس في صلاة الصبح ولم يكن عندهم علم بأن القبلة قد تغيرت للبيت الحرام في اليوم السابق في صلاة العصر.
فكانت وجوههم جهة الشام، فجاءهم من يخبرهم وهم في صلاتهم أن القبلة قد تحولت فحولوا وجوههم جهة البيت الحرام وهم في الصلاة فصار الرجال في موضع النساء، والنساء في موضع الرجال.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: (بينا الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشأم، فاستداروا إلى الكعبة)[البخاري]