يطرح البعض شبهة أن القرآن يوجد به بعض من المتشابه من الآيات التي يختلف الناس في معرفة معناها، مع أن القرآن في الأساس نزل من أجل هداية الناس، فكيف يكون ذلك.
شبهة وجود المتشابه من الآيات
وجود المتشابه من الآيات في القرآن الكريم له عدة فوائد منها:
الاجتهاد في طلب العلم
1 – بذل الجهد وتحصيل العلم والاجتهاد في إعمال العقل من أجل الوصول لدقائق المعارف من أعظم القُرَب التي يتقرب بها الإنسان إلى الله، حتى لا نكون كهؤلاء المشركين الذين ذكر الله لنا حالهم فقال: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ).
بذل الجهد للوقوف على الحقيقة
2 – وجود بعض الآيات المتشابهة التي تحتاج لمن يبذل الجهد من أجل الوصول للحقيقة مما يميز العلماء عن عوام الناس، ويبين فضل العالم على الجاهل.
فقد بين لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضل العالم فقال: (من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة،
وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء،
وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)الترمذي.
وجوه الإعجاز
3 – وجود مثل هذا المتشابه في القرآن مما يبين وجها من وجوه إعجاز القرآن التي لا يقف عليها إلا العلماء الذين وقفوا على دقائق لغة العرب التي تخفى على عوام الناس، بل ربما على أهل العلم منهم ممن ليسوا من أهل الاختصاص.
فمثلا في قول الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )
قد يقف البعض عند هذه الآية ويظن أن الرسول والمؤمنين معه استبطئوا نصر الله حتى قالوا : متى نصر الله .
والحقيقة أن هذا ليس من قول النبي فهذا أمر يحتاج لنوع من التأمل في لغة العرب، فهناك في بلاغة الكلام في لغة العرب شيء يقال له: اللف والنشر.
واللف معناه الجمع، والنشر معناه التفصيل، أي أننا نجمع الكلام أولا ثم نفصله ثانيا، كقول الله: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
فجمع الكلام أولا فذكر الليل أولا ثم النهار ثانيا.
ثم فصل الكلام على الليل أولا فقال: لتسكنوا فيه. لأن السكون يكون بالليل، وتكلم عن النهار ثانيا فقال: ولتبتغوا من فضل. لأن هذا يكون بالنهار.
وهذا يسمى باللف والنشر المرتب حيث تكلم عن الأول أولا ثم الثاني ثانيا.
لكن هناك نوع آخر من اللف والنشر يكون على عكس الترتيب فيتكلم عن الثاني أولا ثم الأول ثانيا كما في قول الله:
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).
فجمع الكلام أولا فذكر الذين ابيضت وجوههم ثم الذين اسودت وجوههم ثانيا، لكن عند تفصيل الكلام تكلم على الذين اسودت وجوههم أولا وقد وقع في الترتيب ثانيا، وتكلم عن الذين ابيضت وجوههم ثانيا وقد وقع في الترتيب أولا .
وهذا يشبه الآية التي معنا حيث قال الله: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
فجمع الكلام أولا في الرسول ثم الذين آمنوا ثم فصله في قول: متى نصر الله. وهذا هو قول المؤمنين ثم قال: ألا إن نصر الله قريب. وهذا هو قول الرسول للمؤمنين.
إذا فهذا مما يحتاج للتعمق في طلب العلم من أجل فهم أساليب القرآن ولا شك أن بذل الجهد في هذا يترتب عليه التفاضل بين الناس وعلو النزلة والمكانة عند الله، وزيادة المشقة في طلب العلم تقتضي مزيدا من الثواب.
المحكم والمتشابه فتح باب الاجتهاد
4 – اشتمال القرآن على المحكم والمتشابه فتح أمام العلماء باب الاجتهاد من أجل الوصول إلى المراد من الآيات وهذا يحتاج إلى بذل الجهد من أجل تحصيل العلوم التي تساعد على الوقوف على المراد من الآيات،
وهذا فتح الباب للتنوع في الآراء ووجود المذاهب المتعددة التي تستوعب الناس بمختلف بيئاتهم وأزمنتهم وثقافاتهم.
اختبار العباد بالمتشابه
5 – وجود المتشابه الذي لا يمكن علمه ولا الوقوف على المراد منه في القرآن مما اختبر الله به عباده، والعبد إما أن يرد المتشابه إلى المحكم من الآيات، وإما أن يسلم الأمر لله ويؤمن بكل ما جاءه من عند الله.
كما في قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )
الأسباب التي أدت لوجود المتشابه
هناك الكثير من الأسباب التي أدت لوجود المتشابه في القرآن الكريم منها:
تنوع الأساليب في الإخبار
1 – الإخبار عن المخبر عنه في مواضع متعددة بألفاظ مختلفة مما يجعل القارئ غير الملم بكل المواضع يظن وجود تناقض واختلاف بين الآيات.
فالآيات التي تحدثت عن خلق آدم -عليه السلام- ذكرت مرة أنه خلق من تراب، ومرة من حمإ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار ،
وهذه الألفاظ مختلفة المعاني إلا أنها جميعا ترجع لأصل واحد وهو التراب لكن هذه هي التحولات المختلفة للتراب.
اختلاف جهة الفعل
2 – مثل أن تأتي آية تبين الفعل والفاعل ثم تأتي أخرى آية أخرى تشتمل على نفس الفعل تذكر له فاعلا آخر ، وقد يكون ذلك في آية واحدة مثل قول الله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)
فهنا نفى الرمي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله : وما رميت. ثم أثبت الرمي له بقوله: إذ رميت.
فليس المقصود أن فعل العبد هو فعل الله، فذلك لو كان صحيحا لكان قولنا: وما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر . وقول هذا كفر ولايجوز في حكم العقل.
لكن المعنى المقصود هو ما حدث من النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر حيث رمى وجوه الكفار وقال: شاهت الوجوه. فما أخطأت واحدا منهم، فكان المعنى: وما أوصلت الحصى لهم إذ رميت ولكن الله أوصل.
فأثبت له الرمي لكنه نفى عنه إيصال هذا الرمي للمشركين وبين أن ذلك كان من فعل الله.
للاطلاع على المزيد: