في هذه الآيات من سورة الملك ذكر الله سوء عاقبة الكافرين، والمحاورة التي دارت بين أهل النار وخزنتها، وحسن عاقبة المؤمنون الذين عملوا لآخرتهم واستعدوا لها، وذكر للعباد بعض ما امتن به عليهم ليتذكروا نعم الله عليهم.
عاقبة من كفر من الجن والإنس
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
سبق قضاء الله في الإنس والجن أن من كفر بالله وجحد بآياته وكذب رسله، فله عذاب جهنم، وبئست هذه النار مرجعا ومصيرا لهؤلاء الذين كفروا بربهم.
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
إذا ألقي هؤلاء الكفار من الإنس والجن في نار جهنم سمعوا لها صوتا منكرا وصياحا، كصوت المتغيظ من شدة الغضب، وكما يعذب الكفار على كفرهم كذلك يعذب المؤمنون العصاة على عصيانهم، لكنهم لا يخلدون في النار كما يخلد الكفار.
وصف حال النار مع أهلها
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
تكاد النار التي ألقي فيها كفرة الجن والإنس تتقطع وينفصل بعضها عن بعض من شدة الغيظ عليهم، كلما ألقي فيها جماعة منهم سألهم حراس النار -مالك وأعوانه- على سبيل التوبيخ والتأنيب ألم يأتكم رسول يتلوا عليكم آيات الله، ويخوفكم من هذا اليوم؟
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)
فأجابوا معترفين قائلين: نعم جاءنا نذير فكذبناهم بما جاءوا به من الآيات وقلنا لهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، فما أنتم في ادعائكم النبوة إلا في ضلال كبير.
تحسر الكافرين عند معاينة العذاب
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
هذ اعتراف من أهل النار وكأنه جواب على سؤال سأله أهل النار لهم: ألم تسمعوا آيات ربكم التي جاءكم بها رسل الله؟ وألم تعقلوا تلك الحجج والبراهين التي جاءكم بها أنبياء الله؟
فقالوا: مقرين ومعترفين بتقصيرهم في الفهم والتدبر: لو كنا نسمع ما أنزل الله من الحق على رسله سماع متدبر متأمل،
ولو كانت لنا عقول نُعملها وننتفع بها، ما كنا من أصحاب النار، وهذا القول منهم اعتراف بجريمتهم في الإعراض عن سماع الحق الذي جاءهم به رسل الله، فبعدا لهم عن رحمة الله.
ما أعده الله لعباده المؤمنين
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
إن الذين يخافون ربهم قبل معاينة العذاب بأنفسهم ويؤمنون به من غير أن يرونه؛ لأنهم يدركون جيدا أن خبر الله لهم أصدق من رؤيتهم الشيء بأنفسهم.
فالعين قد تخطئ في رؤيتها لكن خبر الله صادق لا يخطئ أبدا.
أو أنهم يخشون ربهم إذا كانوا غائبين عن أعين الناس، فيكفون أنفسهم عن ارتكاب المعاصي، ويراقبون الله في سرهم وعلانيتهم، فهؤلاء يغفر الله لهم ذنوبهم ويجزيهم ثوابا جزيلا.
السر والعلن عند الله سواء
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13)
الله تعالى يستوي عنده السر والعلن، فعلى أي وجه قلتم أو عملتم فهو عند الله سواء، فمن عِلم الله أنه عليم بما تخفيه القلوب قبل أن تترجمه الألسنة عنها، فهي من مخلوقات الله وهو أعلم بها.
وقدم الله السر على العلن للإعلام بافتضاح أمر الكافرين على كل حال سواء أسروا أو جهروا.
كيف يغيب عن علم الله شيء مما خلقه
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
فكيف لا يعلم الله سركم وجهركم وجميع أموركم وهو الذي أنشأكم من العدم، وأوجدكم بحكمته، وهو بكل شيء محيط، وهو اللطيف بعباده الذي يعلم دقائق الأمور وغوامضها، والخبير الذي لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
تيسير الأرض للسير فيها والأرزاق
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)
ذكر الله في الآية بعضا من دلائل قدرته ومننه على عباده حيث جعل لهم الأرض لينة سهلة للسير فيها.
فسيروا فيها بالسفر في أقطارها للتجارات والنظر والاعتبار في آثار السابقين، وانتفعوا بما أخرجه الله لكم من زروعها وثمارها وسائر خيراتها، فالله إليه مرجعكم بعد الموت للحساب الجزاء.
تهديد الكافرين
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦)
في هذه الآية تهديد ووعيد لكفار مكة المكذبين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن خاطبهم بقوله:
هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم أن يخسف بكم الأرض فتغيبون في مجاهلها بعد أن كانت ذلولا تمشون في مناكبها فإذا هي تضطرب وتتحرك فتكون فوقهم وهم من تحتها.
إنزال الحجارة من السماء
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧)
هل أمنتم عذاب ربكم الذي يقدر على أن يرسل عليكم حجارة من السماء، كتلك الحجارة التي أرسلها على قوم لوط
أو كالتي أرسلها على جيش أبرهة، فسوف تعلمون عند معاينة عذاب الله كيف يكون إنذار الله وعقابه للمكذبين.
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨)
لقد كذب الكفار من الأمم السابقة أنبيائهم وردعوا عليهم دعوتهم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
وفي هذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- كأن الله يقول له: إن كان قومك كذبوك فلا تحزن ولا تتألم لتكذيبهم فقد حدث هذا مع إخوان الأنبياء من قبلك.
وفي هذا تهديد ووعيد للمشركين، فكيف كان إنكار الله عليهم؟ فقد أنزل عليهم عذابه ولم يستطع أحد أن يحميهم من عذاب الله، ألم يكن هذا في غاية الهول وغاية الإيلام.
تأملوا عظمة الله في طير السماء
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)
لفت الله أنظار هؤلاء المشركين إلى بطلان ما يعبدون من تلك الألهة المزعومة التي لا تستطيع أن تجلب لنفسها نفعا، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضرا،
بأن ينظروا في طير السماء فوقهم نظر تدبر وتأمل، وهي باسطات أجنحتها في جو السماء عند طيرانها، ثم تضم إذا ضربن بها جنوبها،
فما يمسكهن في السماء عن السقوط على الأرض أثناء القبض والبسط إلا الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، إن الله بصير بكل شيء يعلم كيف يخلق ويبدع.
للاطلاع على المزيد: