تفسير

تفسير سورة الملك من الآية رقم 01 إل الآية رقم 05

بدأت الآيات في سورة الملك بتنزيه الله عز وجل وأنه صاحب القدرة المطلقة والخالق لكل شيء، وأمرت بالنظر في مخلوقات الله ليستدلوا منها على قدرة الله وعظمته.

تبارك الذي بيده الملك

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

بدأت السورة بلفظ “تبارك” والذي يفيد التنزيه والتقديس لله -عز وجل- حيث مجد الله نفسه وأخبر عن عظمته.

فهو الذي تحت قدرته وسلطانه ملك السماوات والأرض وما فيهما، فهو المدبر لهما، والمالك لأمرهما، فكل ما عدا الله مخلوق له.

فله التصرف التام في خلقه ولا معقب لحكمه، والله هو القادر على كل شيء لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

خلق الموت والحياة

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)

فمن مظاهر قدرة الله وعظمته أنه هو الخالق للموت والحياة، والحكمة في خلقهما هو الاختبار للعباد؛ ليتميز من هو أصوب وأخلص عملا وأورع عن محارم الله، فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.

هل الموت مخلوق

والموت قد اختلف الناس فيه فأنكر قوم أن يكون الموت مخلوقا، وتوقف بعضهم في ذلك، وأثبته البعض عقلا.

وقيل الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء ولا يطأ على شيء إلا مات.

فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌يؤتى ‌بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد:

يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه.

ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح.

ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون). – وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا[البخاري]

وقيل المراد بالموت والحياة، الدنيا والآخرة.

لماذا اختبر الله العباد بالموت والحياة

وهذا الاختبار الذي من أجله خلق الله الموت والحيا ليس من أجل أن يعلم الله ما كان خافيا عنه، فالله لا يخفى عنه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو عليم أزلا بما سوف يحصل من العباد باختيارهم.

وإنما هذا الاختبار من أجل أن يشهد الإنسان على نفسه، ويعرف حقيقة أمره، فلا يكون له حجة على الله.

فلو لم يكن هذا الاختبار، وحاسب الله العباد على ما يعلمه عنهم، لقال من حق عليه العذاب: يا رب لو خلقتني واختبرتني لكنت من المؤمنين بك المطيعين لأمرك.

فأراد الله ألا يكون لأحد على الله حجة، فعرضهم للاختبار والابتلاء حتى يكونوا شهداء على أنفسهم.

وختم الله الآية بقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أي الغالب الذي لا يعجز عن عقاب من أساء، والغفور لمن تاب وأناب.

عظمة خلق السماوات

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)

معنى السماء هو كل ما علاك، واللفظ مشتق من السمو والرفعة، فالسحاب سماء، والغلاف الجوي سماء، وسقف البيت سماء، ويطلق على سبيل المجاز على المطر النازل من السحاب، كقول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. أي نطأ المطر الذي فوق الأرض.

ويراد بالسماوات السبع أيضا السماوات التي عرج إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- في رحلة الإسراء والمعراج.

فقد خلق سبع سماوات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب فانظر أيها الرائي هل ترى فيها خللا أو عيبا أو نقصا؟

ثم أعد النظر وحدقه مرة بعد مرة لتتيقن من تمام الخلق واستوائه، ولتتيقن من الإتقان والإبداع.

التحدي بعظمة خلق السماوات

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)

ثم ردد البصر وكرره وقلبه في السماء سترى بصرك يرجع إليك صاغرا؛ لأنه لم يصب غرضه من وجود خلل أو عيب في السماء، وكأن السماء طردته خاسئا أي متحيرا.

وليس المراد من الكرتين أن يرجع ببصره مرتين فقط وإنما المراد أن يرجع ببصره مرات كثيرة كما في قولك: لبيك وسعديك. أي إجابات كثيرة لك يا الله لدعوتك لنا للحج إلى بيتك الحرام.

النجوم زينة للسماء ورجما للشياطين

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

أشار الله في هذه الآية إلى أن الله زين السماء الدنيا بالنجوم المضيئة، وجعلها زينة ومصابيح للسماء، وكلها تدور في الفضاء بقدرة الله.

كيف يسترق الجن السمع من السماء

وجعل الله هذه المصابيح رجوما للشياطين؛ للحيلولة بين الشياطين واستراق السمع من الملائكة في السماء، فقد كان الجن يسترقون السمع قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الملائكة،

ثم ينقلون ما يسمعونه إلى الكهنة، فيستغله الكهان ويضيفون إليه ما شاءوا من الأكاذيب، فملأ الله السماء بعد بعثة النبي بحرس شديد وشهبا تقذف من يريد استراق السمع فيقتله ليسلم الوحي من أراجيف الشياطين، وأعد الله لهؤلاء الشياطين عذاب النار المشتعلة في الآخرة.

فعن ‌عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: (أخبرني ‌رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمي ‌بنجم ‌فاستنار،

فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟

قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا،

ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال.

قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا،

فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون)[مسلم]

وعن ‌عائشة -رضي الله عنها- قالت: (قلت: يا رسول الله، إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا! قال: تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ويزيد فيها مائة كذبة)[مسلم]

وهذا الحرس الشديد والشهب التي ملأت السماء جعلت الجن ينتشرون في الأرض ويبحثون عن سبب هذا الأمر حتى سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ القرآن، فآمن منهم من آمن، فقال الله حكاية عن الجن:

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)

للاطلاع على المزيد:

مواضيع ذات صلة