كيف استطاع النبي أن يربي أمة كاملة وحده؟
إن من أقوى المعجزات التي قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي تربيته لأمة كاملة وتحويلها من أمة متنازعة متحاربة لأمة متحابة متآلفة.
طول عمر الجاهلية
لقد طال عمر الجاهلية التي عاش فيها هؤلاء العرب منذ زمن نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام-.
أما أنبياء بني إسرائيل فكانت دعوتهم خاصة لنبي إسرائيل، فهذا نبي الله موسى يبين لقومه أنه مرسل إليهم، فقال الله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ).
وهذا نبي الله عيسى الذي جاء مكملا لرسالة موسى يقول: (إنما بعثت لخراف بني إسرائيل الضالة).
وبين الله لنبيه أنه جاء لينذر قومه الذين لم يأتهم نذير من قبله، فقال الله: (لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ).
وقال: (لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمۡ فَهُمۡ غَٰفِلُونَ).
التحول من العداوة للمحبة
جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ووظيفته أن يحدث التحول في نفوس الناس من العداوة للمحبة، ومن التنازع للتآلف.
لقد بين الله أنه أرسل رسوله بالقرآن ليبشر به المتقين وليخوف به قوما شديدي العداوة فقال: (فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا).
فحول هؤلاء الذين كانوا في غاية العداوة إلى قوم في غاية المحبة، ومن غاية الجهل إلى أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس فقال الله:
(كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ).
الوعظ والإرشاد
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستثمر كل موقف يمر به من أجل أن يعظ الناس ويربيهم بما ينفهم في دنياهم وأخراهم.
حتى الميتة التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمر عليها يقف عليها ويجعل الناس يأخذون منها عبرة وعظة.
عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق داخلا من بعض العالية والناس كنفيه، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال:
(أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: (أتحبون أنه لكم؟)
قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت! فقال: (فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)[مسلم]
وكان رسول الله يعلم الناس أن الدنيا هينة فلا تغتروا بها إن أقبلت عليكم، ولا تحزنوا إن أدبرت منكم، ولا تظنوا أنها المقياس الذي تقيسون به رضى الله وغضبه عليكم.
مفهوم الحب
الحب هو تغير يحدث في الوجدان يجعل الإنسان يضحي بنفسه من أجل من يحب، لا يكفي فقط أن تكون مقتنعا بالعقل فقط لتفعل الشيء، بل لابد وأن يضاف لتلك القناعة العقلية المحبة.
فتلك المحبة هي التي تحمل الإنسان على العمل من أجل إرضاء من يحب، والمحبة هي التي تحمل صاحبها على التضحية بنفسه من أجل من يحب.
أما القناعة العقلية وحدها فلا تكفي فكم من أناس اقتنعوا بعقولهم بصحة الإسلام وصحة ما جاء به رسول الله لكن لم تحملهم تلك القناعة على الدخول في الإسلام والعمل بما فيه.
ويؤكد هذا المعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)[البخاري]
من أجل تحقيق مفهوم الحب لم يجبر الإسلام أحدا على الدخول فيه ولم يجعل ذلك منهجا له، وإنما جعل الله للإنسان حرية اختيار الدين حتى يكون إيمانه عن محبة لا عن إكراه؛ لأن الإكراه لا ينتج تدينا صحيحا وإنما الحب هو الذي يصنع التدين النافع.
فحب النبي لأصحابه هو الذي أنتج هذا الحب الذي جعلهم يضحون بأنفسهم دفاعا عن نبيهم، عن عبد الله بن مسعود قال: شهدت من المقداد الأسود مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به.
أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أشرق وجهه وسره.[البخاري]
النبي يتقدم في المخاطر
كان رسول الله دائما يسبق أصحابه في مواقف الفداء حيث يضع نفسه في مقدمة الصفوف عند قتال الأعداء، وكان القتال إذا اشتد يحتمي الصحابة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لقد كان في غزوة حنين في مقدمة الجيش ولما خرجت كمائن هوازن وفر الجيش ثبت رسول الله وقليل معه وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب.
ففدائية النبي -صلى الله عليه وسلم- وتضحيته من أجل أصحابه والأمة التي ستأتي من بعدهم جعلت الصحابة يقابلون هذه التضحية بتضحية وهذا العطاء بعطاء.
النبي يتأخر في المغانم
وفي حال قسمة الغنائم كان رسول الله يقسم الغنائم على أصحابه وربما لا يتبقى له شيء من تلك الغنائم، وكان رسول الله يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.
هذا العطاء جعل أصحاب النبي يتنافسون معه في تلك الصحفات، فكانوا يضحون بأموالهم وأنفسهم رجاء أن ينالوا رضى الله.
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت:
اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟) قلت: مثله،
قال: وأتى أبو بكر -رضي الله عنه- بكل ما عنده، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أبقيت لأهلك؟) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.[أبو داود]
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بألف دينار، … في كمه حين جهز جيش العسرة، فنثرها في حجره،
قال عبد الرحمن: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقلبها في حجره، ويقول: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم!) مرتين.[الترمذي]