ما زلنا نتابع الحديث عن خطبة الوداع التي رواها جابر بن عبد الله ففي هذا الجزء نتابع ما قاله رسول الله في خطبته التي لخص فيها تعاليم الإسلام في كلمات معدود وبنود محدودة.
الوقوف بعرفة
قال جابر: (وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.
فأجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي).
أمر رسول الله بأن يضربوا له خيمة من شعر، بموضع يسمى نمرة عن يمين الخارج من مأزمي عرفة.
وقال الطيبي: نمرة جبل قريب من عرفات وليس منها، فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من منى إلى نمرة.
ولم تشك قريش في أن رسول الله سيقف عند المشعر الحرام لأنهم كانوا يقفون في الجاهلية عند المشعر الحرام، وهو جبل المزدلفة،
فجاوز رسول الله هذا الموضع حتى وجد الخيمة قد نصبت له بنمرة فظل بها حتى زالت الشمس عن كبد السماء فأمر بالقصواء ناقبته فرحلت له حتى أتى بطن الوادي بعرفات.
خطبة الوداع وبيان حرمة الدماء
فخطب الناس وقال: (إن دماؤكم وأموالم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا).
أول بند أعلن عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الخطبة التي ودع فيها الأحياء والدنيا بعد أن جاهد في سبيل الله ثلاثة وعشرين عاما، حرمة الدماء، وحرمة الأموال.
فلا يحل لمسلم أن يريق دم أخيه ولا أن يسلب ماله، وتلك الحرمة كحرمة تعرض المسلم لأخيه المسلم في مثل هذا اليوم وهو يوم عرفة، وكحرمة شهر ذي الحجة، فهو من الأشهر الحرم، وكحرمة البلد الحرام وهو مكة.
إبطال حق القصاص في دماء الجاهلية
قال النبي: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل).
أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قرار أخذه وهو إبطال كل أمر من أمور الجاهلية قبل الإسلام، وأنه موضوع تحت قدميه من باب المبالغة في إبطال أمره.
وأول شيء من هذه الأمور الموضوعة هو الدماء المستحقة لأهل الإسلام، أو من دماء أقاربنا فابتدأ بوضع دم أقاربه التي كات مستحقة لهم على غيرهم مما وقع في الجاهلية.
وهو دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب واسمه إياس وكان إياس هذا مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل وهو طفل صغير يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب بني سعد مع هذيل فقتله.
إبطال أمر الربا
قال النبي: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله).
الأمر الثاني الذي أبطل رسول الله أمره وجعله تحت موطئ الأقدام من أمور الجاهلية هو ربا الجاهلية وغيره من الأموال المنهوبة والمغصوبة.
لكن خص الربا بالذكر دون غيره للتأكيد على حرمته، وأول ربا يضعه أي يبطل ما كان زائد على رأس المال هو ربا العباس بن عبد المطلب فإن هذا الربا موضوع كله وهذا تأكيد بعد تأكيد.
والمراد من هذا هو المال الزائد وليس كل المال لقول الله: (وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ).
الوصية بالنساء
قال النبي: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه.
فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالممعروف).
في هذا الموقف الجامع لم ينس رسول الله أن ينبه على حقوق النساء وذلك لأنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية لا تراعى للنساء حقا ولا حرمة.
بل كانت المرأة عندهم تعامل معاملة الأثاث الذي يوضع في البيت، فنبه رسول الله على أن الإسلام جعل لهن حقوقا وعليهن واجبات كما أن للرجل حقوقا وعليه واجبات.
فأمر بتقوى الله أي الخوف منه عند معاملة النساء فإنكم أخذتموهن بعهد مع الله بالرفق وحسن العشرة، واستحللتم فروجهن بشرع الله وبأمره وحكمه، وهذا هو قول الله: (فانكحوا)
وإن من حقوقكم عليهن ألا يأذنّ لأحد بدخول بيوتكم بغير إذن منكم، فإذا أدخلن أحدا فاضربوهن ضربا غير مبرح أي لا يشوه لحما ولا يكسر عظما.
وكان من عادة العرب أنهم لا يرون بأسا بدخول أحد من الرجال الأجانب لكن الإسلام لم يبح ذلك حيث نزلت آية الحجاب.
ومن حقوق النساء على أزواجهم المأكل والمشرب والكسوة بما بتناسب مع حالكم أي بالمعروف .
الاعتصام بالكتاب والسنة
قال النبي: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله).
بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته المخرج لهم من التيه والضلال وهو التمسك بكتاب الله.
وهذا الكتاب آمر بالعمل بما أمر به رسول الله في سنته حيث قال الله: (من يطع الرسول فقد أطاع الله).
وطاعة الرسول بعد موته إنما تكون باتباع سنته، وهذه السنة بالنسبة للقرآن كالمذكرة التفسيرية التي تفسر لنا ما ورد فيه، فبدونها لا نعرف كيفية الصلاة، ولا كيفية الحج ولا أحكام الزكاة وغير ذلك من الأحكام.
شهادة الأمة لنبيها
قال النبي: (وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس
(اللهم! اشهد اللهم! اشهد) ثلاث مرات ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا…[مسلم]
بين رسول الله لأصحابه وللأمة من بعدهم أنهم جميعا سيسألون أمام الله عن نبيهم هل بلغهم؟ وهل أدى أمانة التبليغ التي أمره الله بها؟ وماذا سيكون جوابهم على الله؟
فارتفعت الأصوات بأنهم جميعا سيشهدون أمام الله أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة.
فاطمأن رسول الله إلى شهادة أمته وما يقولونه عنه فجعل يشير بالسبابة إلى السماء وإلى الناس وهو يقول: اللهم اشهد على ما يقولون أنهم قد أقروا أني قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة.
للاطلاع على المزيد: