اتفق العقلاء من أصحاب المذاهب على أن للإنسان عملا يمدح به ويذم عليه في الدنيا، ويثاب ويعاقب عليه في الآخر، لكن كيفية هذا العمل هل هو الكسب أم الخلق فهذا ما اختلف فيه العلماء.
قول المشركين في القدر
جادل المشركون في أمر القدر قديما وحاولوا أن يثبتوا شرعية لكفرهم وعبادتهم لغير الله بأن ما هم عليه إنما هو مشيئة الله ولو أراد الله لهم غير ذلك لألهمهم الإيمان وفعل الصواب.
قال الله: (وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ).
فرد الله عليهم ببطلان ما يقولون وأن ما يفعلونه ينكره الله عليهم أشد الإنكار، بدليل أنه أرسل إليهم رسوله، وأرسل رسله للأمم من قبلهم لينهوهم عن فعلهم وليس على الرسل إلا البلاغ الواضح البين الذي لا لبس فيه ولا غموض.
وحرم هؤلاء المشركون الطيبات التي لم يحرمها الله عليهم وتعللوا لفعلهم أيضا بأنها إرادة الله ولو أراد الله غير ذلك لألهمهم الصواب.
قال الله: (سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ).
فرد الله عليهم بأن هذه الشبهة الباطلة تعلل بها أناس من قبلهم وضلوا عن طريق الإيمان بالله حتى أنزل الله بهم عذابه ولو كانت حقا لما أنزل الله بهم عذابه.
موقف المنافقين من القضاء والقدر
في غزوة أحد كان رأي الشيوخ أن يمكث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه في المدينة ويقاتلوا المشركين وهم بداخل المدينة، وكان من المؤيدين لرأي الشيوخ عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين.
وكان رأي الشباب أن يخرجوا لقتال المشركين عند جبل أحد، فنزل رسول الله على رأي الشباب وخرجوا للقتال.
وكان النصر في بداية الأمر للمسلمين حتى خالف الرماة كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزلوا من الجبل حيث كانوا يحمون ظهور المسلمين، فلما رأى المشركون تلك الثغرة استغلوها وحولوا نصر المسلمين إلى هزيمة وقتل من المسلمين العدد الكثير.
وكان عبد الله بن أبي رأس المنافقين قد انخذل ورجع هو وثلث الجيش معه فلم يقاتلوا، فلما وصلهم خبر هزيمة المسلمين قالوا ما ذكره القرآن عنهم:
(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَة قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ
يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡء مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ
قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ).
فلما قال هؤلاء المنافقون عمن قتلوا لو سمعوا ما قلناه لهم من عدم الخروج للقتال خارج المدينة ما قتلوا وكأنهم ينكرون القضاء والقدر الذي نزل بهم.
فبين الله لهم أن الخروج للقتال لم يعجل بموتهم وأن الحذر لا يمنع القدر وأن التدبير لا يمنع التقدير.
وأنهم لو كانوا في بيوتهم وجاءهم القدر الذي قدره الله عليهم لجاءهم القتل حتى لو كانوا على فرشهم في بيوتهم، فقال الله: (أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ).
الكلام في القدر زمن النبي
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟
فسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: (بهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به، فاعملوا به، والذي نهيتم عنه، فانتهوا)أحمد
وعن علي -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فأخذ شيئا فجعل ينكت به الأرض، فقال:
(ما منكم من أحد، إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة) قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال:
(اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة)
(فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)البخاري
رأي الجبرية في القدر
هؤلاء الجبرية هم أصحاب جهم بن صفوان وهم قوم ينفون القدر ويقولون: إن الإنسان مسير وليس له اختيار في أفعاله ولا أقواله، وأنه ليس مسئولا عن أي شيء يصدر عنه، فهم ينفون الفعل عن العبد وينسبونه لله تعالى.
وهذا مخالف لقول الله: (فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ)
ومخالف للنصوص الصريحة التي وردت في القرآن والسنة والتي تثبت أن العبد محاسب على فعله.
قال الله: (أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ).
وقال الله: (فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ).
رأي القدرية في القدر
وأما القدرية فهم قوم ينسبون إلى معبد بن خالد الجهني، وقالوا: لا قدر والأمر أنف. فهم ينفون علم الله السابق للحوادث وينفون تقدير الله للأمور ويضيفون الأفعال للإنسان فهو موجدها ومسئول عنها.
وهذا مذهب باطل مخالف لما ورد في كتاب الله حيث قال الله: (مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِير).
وقال الله: (وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ)
رأي المعتزلة في القدر
يقول المعتزلة: إن أفعال العباد قسمان: قسم لا اختيار فيه وهي الأفعال الاضطرارية التي لا دخل للإنسان فيها، كدقات القلب وجريان الدم في العروق وتردد النفس في الصدر.
وقسم للإنسان فيه اختيار فهو يختاره بمحض إرادته وهذا القسم هو مناط التكليف وعليه الثواب والعقاب، وقالوا: إن العبد مخلوق لله بقدرته وهو المحدث لأفعال نفسه بما منحه الله من القدرة وأسبابها.
رأي الأشاعرة في القدر
يقول الأشاعرة: العبد ليس له من أعماله إلا الكسب وأما خلق الأفعال وإيجادها فمرده إلى الله.
فقدرة العبد لا تأثير لها في الأفعال الاختياريةوإنما يخلق الله التأثير في الفعل عند إرادة العبد هذا الشيء وهذا هو الكسب فالإنسان يحاسب على كسبه لقول الله:
(لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ).
وأما خلق الفعل فمرده إلى الله قال تعالى: (قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّٰرُ)
وقال الله: (ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيل)
وقال الله: (أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ).
للاطلاع على المزيد: