هذه القبور التي نمر عليها ظاهرها سواء، لكن باطنها مختلف، والله أعلم بحال كل واحد من أهلها، يقول علي بن أبي طالب وقد مر على القبور: (إن هذه القبور ظاهرها تراب، وباطنها حسراتٌ أو نعيم أو عذاب).
معنى البرزخ
البرزخ هو الحاجز بين الدنيا والآخرة، ويبدأ زمانه من وقت الموت وينتهي بقيام القيامة، ومكانه من القبر إلى عليين، بالنسبة لأهل السعادة، أما أهل الشقاوة فلا تفتح لهم أبواب السماء.
قال الله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
نعيم القبر وعذابه غيب
من الأمور الغيبية التي يجب علينا الإيمان بها ما يحدث للأموات في قبورهم، والغيب هو ما غاب عن حواسنا لكن عرفناه من خلال الوحي الذي أوحاه الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-
فمن لم يؤمن بالغيب كان كافرا لأنه يكون مكذبا لله فيما أخبر عنه، وقد بين الله أن من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب.
قال الله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
ونعيم القبر وعذابه قد أخبر الله عنهما في القرآن، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهما في سنته.
نعيم القبر وعذابه من القرآن
قال الله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)
وقال الله: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
وقال الله: (سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم)
قال الله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ).
نعيم القبر وعذابه من السنة
عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(إذا أقعد المؤمن في قبره أتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)[البخاري]
وعن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان، إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟
فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه)[الترمذي]
الاستعاذة من عذاب القبر
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من عذاب القبر كثيرا في صلاته، فعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت:
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم).
فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: (إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف)[البخاري]
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه بالتعوذ من عذاب القبر في صلاة الكسوف.
عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن يهودية جاءت تسألها، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر.
فسألت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيعذب الناس في قبورهم؟
فقال: رسول الله عائذا بالله من ذلك، ثم ركب رسول الله ذات غداة مركبا، فخسفت الشمس، فرجع ضحى،
فمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين ظهراني الحجر، ثم قام يصلي وقام الناس وراءه، فقام قياما طويلا، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول،
ثم رفع فسجد، ثم قام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوع طويلا، وهو دون الركوع الأول، ثم قام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول،
ثم رفع، فسجد وانصرف، فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر.[البخاري]
النميمة وترك التطهر من البول
من الأسباب الموجبة لعذاب القبر السعي بالنميمية بين الناس من أجل الإيقاع بينهم، مما يترتب عليه تأجيج نار العداوات بين الناس.
وقد بين لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن النميمة من أشنع الذنوب التي تكون سببا في حجب صاحبها عن الجنة فقال: (لا يدخل الجنة نمام)[مسلم]
وترك التطهر من البول، هذا يترتب عليه بطلان الصلوات لأن من شروط صحة الصلاة الطهارة بأن يكون الإنسان طاهر البدن وطاهر الثياب.
عن ابن عباس قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بحائط من حيطان المدينة، أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما،
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يعذبان وما يعذبان في كبير). ثم قال: (بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة).
ثم دعا بجريدة، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: (لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا. أو: إلى أن ييبسا)[البخاري]
الغلول من أسباب عذاب القبر
الغلول هو أخذ شيء خفية من أموال الغنائم التي يحصل عليها المسلمون من الكفار في الحرب مهما كان قليلا، فهذه الغنائم لا يجوز للمحارب أن يأخذ شيئا منها دون إذن ولي الأمر، ودليل هذا التحريم قول الله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وعن عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس أنه: لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون)[مسلم]