دروس من تحويل القبلة من المسجد الأقصى للمسجد الحرام
اشتمل حدث تحويل القبلة من المسجد الأقصى للمسجد الحرام على الكثير من الدروس والعبر التي ينبغي أن نقف عندها ونتأمل فيها منها:
الإسلام رسالة جامعة
1 – صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أولا لجهة المسجد الأقصى ثم تحولت بعد ذلك لتكون قبلته في الصلاة المسجد الحرام.
وتلك إشارة إلى أن رسالة الإسلام هي الرسالة الجامعة لكل رسالات الأنبياء والمرسلين، وهي الرسالة التي ختم الله بها كل الرسالات، فرسالة الإسلام تمثل دين الله والخروج عنها خروج عن دين الله.
فرمزية المسجد الأقصى إنما تشير لرسالات كل الأنبياء من لدن إبراهيم وإسحاق وكل أنبياء بني إسرائيل.
والمسجد الحرام هو البيت الذي بناه آدم -عليه السلام- وطاف به الأنبياء وعنده كانت نشأة نبي الله إسماعيل، فكلاهما يشير إلى مجموع رسالات الأنبياء والمرسلين.
العلاقة بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام
2 – التأكيد على العلاقة الوثيقة بين البيت الحرام والمسجد الأقصى، فالمسجد الحرام هو أول بيت وضعه الله للناس في الأرض كعلامة على التوحيد والطهر.
وثاني مسجد وضعه الله للناس في الأرض هو المسجد الأقصى، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام).
قال: قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى). قلت: كم كان بينهما؟ قال: (أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله، فإن الفضل فيه)[البخاري]
تقديس أوامر الله
3 – حدث تحويل القبلة من الأحداث التي تعلم المسلم أنه لا يقدس أحدا إلا الله فليس هناك في الإسلام تقديس لحجر ولا لجهة من الجهات وإنما المؤمن يلتزم بأوامر الله له ويفعل ذلك تعظيما له.
فتعظيم القبلة ليس هو الغاية، وإنما الغاية هي تعظيم أوامر الله، فإن أمر الله بالتوجه جهة المشرق توجهنا، وإن أمرنا بالتوجه قبل المغرب توجهنا.
قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
ورد الله على هؤلاء اليهود الذين اعترضوا على هذا التحول فقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
اختبار المؤمنين
4 – تحويل القبلة كان بمثابة اختبار لإيمان المؤمنين، هل توجههم لبيت المقدس صار عادة لهم فهم مستمرون عليها أم أنهم يتوجهون استجابة لأمر الله،
فإذا جاء الأمر من الله بعكس ما هم عليه استجابوا للأمر، أم أنهم لا يستجيبون لأوامر الله ويظلوا على ما هم عليه.
قال الله: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
التسليم والطاعة لأوامر الله
5 – السمة التي ينبغي على المسلمين أن يتسموا بها هي أن يكون حالهم مع أي أمر يأمرهم الله به أن يقولوا سمعنا يا ربنا قولك وأطعنا أمرك.
قال الله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
موقف غير المؤمنين تجاه تحويل القبلة
6 – بيّن حدث تحويل القبلة حالة سائر الناس تجاه أوامر الله، فقد وضح أمر المؤمنين أنهم يدورون مع أوامر الله فليس الأمر بالنسبة لهم عادة اعتادوها وإنما الأمر بالنسبة لهم هو تنفيذ لأوامر الله.
أما المشركون فلم يزدهم هذا الأمر إلا كفرا وعنادا، وظنوا أنه برجوع النبي لقبلتهم وهي البيت الحرام أنه بذلك يتقرب منهم.
وأما اليهود فلم يقبلوا رسالة الإسلام لما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متوجها لقبلتهم، فلما تحولت القبلة لبيت الله الحرام قالوا: لو كان نبيا حقا لما خالف قبلة الأنبياء من قبله، أما وإنه خالفها فليس بنبي.
وأما المنافقون فقالوا: لو كانت القبلة الأولى حقا فقد ترك الحق الذي كان عليه، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على الباطل.
لذلك صور الله كل هذا السفه والباطل الذي تنطق به ألسنتهم، فقال الله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
حال من ماتوا وهم يصلون للمسجد الأقصى
7 – رد الإسلام على سؤال المسلمين عن حال إخوانهم الذين ماتوا وهم يصلون جهة القبلة الأولى هل بطلت بذلك أعمالهم، أو هل ضاعت عليهم صلاتهم التي صلوها جهة بيت المقدس.
فبين الله لهم أن صلاتهم لن تضيع عليهم؛ لأنهم لما توجهوا في صلاتهم جهة بيت المقدس إنما فعلوا ذلك استجابة لأمر الله، فلم يكن ذلك صادرا عن هوى أنفسهم، وأن الذين يصلون جهة البيت الحرام إنما يفعلون ذلك استجابة لأمر الله، فقال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).
عظمة مكانة النبي
8 – التأكيد على عظمة مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان كثيرا ما ينظر إلى السماء ويدعوا ربه أن يجعل قبلته جهة بيت الله الحرام فهو قبلة أبيه إبراهيم،
لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا من قبل نفسه، وإنما هو مستجيب لأمر ربه حتى ولو كان لا يوافق هوى نفسه.
فلما رأى ربه استسلامه لأمره حقق له رغبته وأمر بتحويل القبلة من المسجد الأقصى للبيت الحرام.
وهذا هو ما عبر عنه القرآن الكريم حيث قال الله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
وكان في الآية رد على أهل الكتاب الذي اعترضوا على تحويل القبلة أنهم يعلمون أن هذا هو الحق من عند الله، وأن الله مطلع على ما قلوبهم وعالم بأحوالهم.
وسطية الإسلام
9 – التأكيد على وسطية أمة الإسلام فهي الأمة الوسط التي لا غلو ولا تقصير عندها، وأوسط الشيء هو أشرفة.
وهي الأمة التي تشهد على الأمم قبلها وشهادتها على الأمم مع أنها لم ترها إنما هو نابع من إيمانها بكتاب الله، فهي تشهد بما في كتاب الله على الأمم من قبلها.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟
فيقولون: لا ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جل ذكره: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس). والوسط العدل.[البخاري]