تفسير

تفسير سورة الكهف من الآية رقم 54 إلى الآية رقم 59

تحدثت هذه الآيات من سورة الكهف عن ضرب الأمثال في القرآن، وذكرت ما أنزله بالأمم السابقة لما كذبوا وكفروا ليعتبر هؤلاء المشروكون ويتعظوا.

الأمثال في القرآن

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤)

لما ضرب الله المثل بصاحب الجنتين الذي تفاخر بماله وولده، وضرب المثل لهذه الحياة الدنيا، بين الله هنا الفائدة من ضرب الأمثال،

وهو تقريب الأمور المعنوية للأذهان بتصويرها بالصور الحسية حتى يسهل الفهم واستيعاب المراد، وقد أكثر القرآن الكريم من ضرب الأمثال لتقريب المعنى الخفي المعقول من خلال الأمر المحسوس.

فبين الله في هذه الآية أنه ضرب الأمثال، وكرر الحجج والبراهين من أجل هداية الناس وشفاء قلوبهم.

لكن طبيعة الإنسان الجدال لا يخضع للحق ولا ينزجر بموعظة، وهذا تنبيه للإنسان بأن يتخلى عن غروره وكبريائه؛ لأنه سيورده المهالك،

وليحكّم صوت العقل الذي منحه الله له ليصل من خلاله إلى الحقيقة التي يهتدي بها.

انتظار المشركين لنزول العذاب

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (٥٥)

وما منع كفار مكة ومن حذا حذوهم من أهل الشرك والضلال من الاستجابة للإيمان بالله حينما جاءهم الهدى أن يطلبوا المغفرة من الله لذنوبهم وآثامهم إلا أنهم طلبوا أن يأتيهم مثل العذاب الذي أرسله الله على السابقين من الأمم البائدة.

وما فعلوا ذلك إلا بسبب إصرارهم على كفرهم وجحودهم، أو أنهم انتظروا أن يأتيهم العذاب مقابلا ومواجها لهم.

فإنهم لم يطلبوا من الله أن يهديهم للحق الذي أنزله على نبيه، وإنما طلبوا إن كان هذا الذي أنزله على نبيه هو الحق أن يرسل عليهم عذابا من السماء، فهم لا يريدون الهدى وإنما ينتظرون نزول العذاب عليهم.

قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ‌فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

البشارة والإنذار

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ

إن وظيفة الرسل هي البشارة للمؤمنين بالجنة، والإنذار والتحذير للكافرين من العذاب الأليم، كل ذلك بالقول الواضح وبالحجج والبراهين، وليست مهمتهم إنزال العذاب أو الدمار فوظيفتهم محددة.

الكفار يجادلون في الحق

وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ

لكن الكافرين يجادلون بالباطل ويريدون أن يغلبوا الحق الذي جاءهم به رسل الله، ويوهموا الناس أن باطلهم هو الحق، وأن الحق الذي جاء به الرسل هو الباطل؛ ليخدعوا ضعاف العقول أو من قلوبهم مرض.

الاستهزاء بالقرآن

وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (٥٦)

واتخذ الكافرون آيات الله وهي المعجزات التي أيد بها أنبياءه ورسله، والقرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وما فيه من البشارة للمؤمنين، والإنذار للكافرين بالاستهزاء والسخرية.

فجعلوا هذا القرآن هو محل سخريتهم واستخفافهم ولعبهم، قال الله: (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً).

وحينما يطلب هؤلاء المشركون نزول الآيات لا يطلبونها من أجل الإيمان بها، أو الوصول للحق وإنما من أجل الاستهزاء والسخرية.

قال الله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ‌وَمَا ‌يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

الإعراض عن آيات الله

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧)

(ومن أظلم) استفهام للنفي والإنكار، أي لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات الله الواضحات، وبحجج الله البينات، ثم أعرض عن سماع هذا الحق ونسي ما ارتكبته يداه، وخفي عنه عاقبة أفعاله.

فأمثال هؤلاء جعل الله على قلوبهم أغشية تحول بينهم وبين فهم آيات القرآن وتدبرها، ومعرفة أسرارها،

وفي آذانهم صمم ليس على الحقيقة وإنما هو صمم معنوي بسبب كفرهم يمنعهم أن يسمعون سماع تفهم، وإن تدعهم إلى الهدى والقرآن فلن يهتدوا إذا أبدا؛

لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون فقد أغلقوا على أنفسهم وسائل الإدراك التي يدركون بها حقائق الأشياء.

سعة رحمة الله

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ

وربك أيها النبي واسع المغفرة، رحيم بالعباد مع تقصيرهم حيث كتب على نفسه رحمة العباد، فقال الله: (‌كَتَبَ ‌عَلَى ‌نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ).

إمهال الله للعباد

لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨)

لو يؤاخذ الله الناس بما اكتسبته أيديهم لعجل لهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة كما قال الله:

(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ‌ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا).

ولكن أمهلهم الله ليوم محدد لن يجدوا فيه مفرا ولا مهربا من الله، ولن يجدوا فيه من ينصرهم من دون الله، فسنة الله في العاصين أنه يمهلهم ليوم محدد ولا يهملهم فيفلتوا من العذاب، وإنما سيلقى كل واحد جزاء ما قدمته يداه.

سنة الله في الأمم السابقة

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)

وتلك هي أخبار أهل القرى التي أهلك الله أهلها من الأمم السابقة من قوم عاد وثمود لوط وغيرهم لما ظلموا وعاندوا رسل الله أمهلهم الله لعلهم يتوبوا ويرجعوا،

لكنهم أصروا على كفرهم فأنزل الله بهم عذابه في الدنيا قبل الآخرة، وجعل الله لهلاكهم موعدا محددا.

وهذه الآية فيها تحذير لهؤلاء المشركين من أهل مكة وغيرهم الذي كذبوا رسوله محمدا وخاتم رسله، كأن الله قال لهم: لا تستبعدوا أن ينزل الله بكم ما أنزله بالأمم السابقة فلستم بأعز على الله منهم.

للاطلاع على المزيد:

مواضيع ذات صلة