ليس هناك في الإسلام أنصاف الحلول في الأصول والاعتقادات، فالأمر إما حق وإما باطل ليست هناك منطقة رمادية بينهما يقف الإنسان عليها؛ لأن الله تعالى قال: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).
المفاصلة بين الكفر والإيمان
النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل أنصاف الحلول مع المشركين، فقد طلبوا منه يوما أن يقر بآلهتهم ويقروا بربه، فلم يقبل منهم هذا العرض الخبيث الماكر؛
لأنهم يريدون منه شرعية بأحقية ما يعبدون من الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، حيث كلمه الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي يوما وقالوا له:
(يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه).
لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رفض طلبهم؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع الحق والباطل أبدا فهما خطان متوازيان لا يلتقيان.
وأنزل الله تعالى قوله: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)
كان الناس أمة واحدة
الأصل أن الناس جميعا كانوا على ملة واحدة وهي ملة آدم -عليه السلام- حيث نشأ أبناؤه من بعده على ما كان يؤمن به أبوهم آدم.
واستمر الناس على هذا حتى جاءهم الشيطان فأغواهم وأبعدهم عن طريق الله إلى سبل الغواية، فأرسل الله رسله ليحملوا الناس على طريق الحق ويبعدوهم عن طريق الباطل.
فكان الأنبياء يبشرون المؤمنين بنعيم الله ورحمته، ويحذرون الكافرين من عذاب الله.
قال الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
فلما عم الكفر الأرض قبل مبعث نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مقتهم الله جميعا، ولم يبق على الإيمان إلا بقايا من أهل الكتاب.
فأرسل الله نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- ليحمل الناس من جديد على الإيمان بالله.
عن عياض بن جمار قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم في خطبته:
(…وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان…)مسلم
العداوة للأنبياء
ما من نبي أرسله الله لقومه إلا وتصدى له أعداء سماهم الله مجرمين، فقال الله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ).
وهؤلاء الأعداء إنما كانوا يضعون الشبهات والعراقيل أمام الأنبياء ليوقفوا مسيرتهم، بالقول المزين الذي يوهم ضعاف الإيمان أنه يعتمد على العقل والمنطق.
وقد اتحد على الأنبياء الشياطين من الإنس والجن فقال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ).
ولا يمتثل لقول هؤلاء الشياطين إلا ضعاف الإيمان ممن يبحثون عن طريق الغواية، قال الله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ).
بذل الجهد من أجل دفع الباطل
كما أن أهل الباطل يجتهدون في نشر باطلهم كذلك يجب على أهل الحق أن يبذلوا جهدهم لدحض هذا الباطل ودحره،
فكل يبذل ما في وسعه وطاقته حتى يكون له عذر أمام الله فينكر الباطل ويقر الحق ولا يداهن في ذلك ولا يماري، قال الله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا).
وطريق نشر الحق وإنكار الباطل ليس بالطريق السهل الذي يقدر عليه كل واحد من الناس وإلا لتساوى كل الناس في الفضائل.
قال التنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم * الجود يفقر والإقدام قتال.
فقد تحمل الصحابة كل أنواع الأذى والإيلام بسبب تمسكهم بهذا الحق، فمنهم من أخرج من بيته وبلدته التي كان قضى فيها فترة صباه،
ومنهم أوذي، ومنهم من جرح، ومن قتل في سبيل الله، فكان هذا هو ثمن التمسك بالحق الذي أرسل الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
كتمان الحق تأييد للباطل
من الأمور التي حرمها الله وتوعد فاعلها بالطرد من رحمته كتمان الحق الذي بينه الله لعباده من أن أجل أن يسترضي الإنسان هذا أو ذاك،
أو من أجل أن ينال منفعة من الدنيا، فمن فعل ذلك يكون هو ومن يفعل الباطل سواء بل إن جرمه ربما يكون أشد؛ لأنه يترتب على ذلك ضياع الحقوق،
وقد حذر الله من ذلك فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)
النهي عن خلط الحق بالباطل
نهى الله عباده عن خلط الحق بالضلال حتى لا يشتبه أمر الباطل على الناس فيقبلوه ويعملوا بما فيه، وفي نفس الوقت يقومون بكتمان الحقيقة فيجمعوا بذلك بين جريمتين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، قال الله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
إظهار الإسلام وإبطال الشرك
في غزوة بدر كان الهدف من خروج المسلمين أن يأخذوا عيرا لقريش قادمة من الشام مقابل ما أخذه المشركون منهم في مكة من ديارهم وأموالهم،
لكن أراد الله للعير أن تنجو وأن تأتي قريش بخيلائها وفخرها من أجل القتال، وكانت هذه إرادة الله أنه اختار للمسلمين الأمر الأصعب من أجل أن يحق الحق أي يظهر الإسلام، ويبطل الباطل وهو الشرك.
قال الله تعالى معللا هذه الحرب التي كانت في غزوة بدر: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).