من يتأمل في حال الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- يجد أنهم لم يستثنوا من الابتلاءات، بل إن ما ابتلاهم الله به كان أعظم مما ابتلى به غيرهم، فكأن البلاء خلق لهم، وكأنهم خلقوا للبلاء، لكنهم مع ذلك كانوا أصبر الناس وأعبد الناس.
ابتلاء النبي بفقد أبنائه الذكور
كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أبناء من الذكور هم: القاسم وعبد الله وإبراهيم، وماتوا كلهم أطفالا صغارا.
كان أول الأبناء هو القاسم بن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رزق به من خديجة، وهو الذي يكنى به رسول الله فيقال اله أبو القاسم، عاش سبعة أشهر ومات بمكة قبل البعثة.
وأما عبد الله فهو المولود السادس من خديجة وكان يلقب بالطيب والطاهر، مات وهو صغير بمكة أيضا.
وأما إبراهيم فأمه مارية القبطية، فأخواله من المصريين ولد بالمدينة سنة ثمان من الهجرة وهو الابن السابع في ترتيب الأبناء، مات وهو ابن ثمانية عشر شهرا، في العام العاشر من الهجرة.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: دخلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي سيف القين، وكان ظئرا لإبراهيم، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه.
فجعلت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله؟
فقال: (يا ابن عوف، إنها رحمة). ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون)[البخاري]
شرح حديث موت إبراهيم
أبو سيف هو زوج المرضعة التي كانت ترضع إبراهيم، والمرضعة كان اسمها خولة بنت المنذر، وكان أبو سيف ظئرا لإبراهيم، ومعناه من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير لدها، فأطلق على المرضعة التي ترضع غير ولدها، وأطلق على زوجها لأنه يشاركها في تربيته.
ومعنى قبله وشمه: أي متع حاسة الشم به وحاسة اللمس والقبلة والعين.
ومعنى يجود بنفسه: أي تخرج الروح إلى بارئها، كما يقولون : جاد بالمال لمستحقه، فكأنه يسلم الروح لخالقها.
وسبب تعجب عبد الرحن بن عوف من بكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه يقول: الناس لا يصبرون على المصيبة وأنت يا رسول الله تفعل فعلهم، وأنت دائما تحثنا على الصبر.
فبين له رسول الله أن ما تراه من حزن القلب ودمع العين ليس من الجزع وإنما هو من باب رقة القلب على الولد.
ونسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحزن للقلب والدمع للعين؛ لأن هذا يصدر منهما دون تحكم من الإنسان فيه، لكن في الكلام بين أنه لا يقول إلا ما يرضي الله؛ لأن الإنسان يستطيع التحكم في لسانه.
إبراهيم يكمل رضاعه في الجنة
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره قينا، فيأخذه فيقبله ثم يرجع.
قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة)[مسلم]
العيال هم أكثر شيء يستهلك من المؤمن، لكثرة حاجاتهم ومطالبهم من كسوة ومطعم ومسكن وتعليم وتربية.
وعندهم شطط في الطلب، ولا تحملون تأخر مطالبهم، فالصبر عليهم من أفضل الصبر، فإذا كان خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع عياله أفضل الخلق، فهو أحسن الناس خلقا مع الناس جميعا.
ابتلاء النبي بفقد أبنائه البنات
كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أربع بنات هن اللاتي عشن له من الأولاد حتى كبرن وتزوجن لكنهن متن جميعا في حياته -صلى الله عليه وسلم- إلا فاطمة فهي التي عاشت بعده، لكنها ماتت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر عن عمر ثلاثين عاما.
ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر كغيره من البشر، يشعر بما يشعرون، ويتألم كما يتألمون، كان يتألم لفقد أبنائه، لكنه كان يصبر ويحتسب، فهو الذي ميزه الله على البشر بما اصطفاه الله به من الرسالة.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: (شهدنا بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان فقال:
هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا، قال: فأنزل في قبرها. فنزل في قبرها فقبرها)
قال ابن مبارك: قال فليح: أراه يعني الذنب. قال أبو عبد الله: ليقترفوا أي ليكتسبوا.[البخاري]
وعن أم عطية قالت: توفيت بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لنا: (اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، فإذا فرغتن فآذنني).
فلما فرغنا آذناه، فنزع من حقوه إزاره، وقال: (أشعرنها إياه)[البخاري]
والحقو بفتح الحاء وكسرها وهو الإزار، وسمي حقوا لأنه يشد على الخصر، فنزع رسول الله الإزار من حقوه.
وقال: أشعرنها إياه أي اجعلنه مما يلي جسدها، فالشعار : هو ما يلي الجسد، والدثار ما يكون فوقه، والحكمة من ذلك هو التبرك بآثار النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالحديث فيه جواز التبرك بآثار الصالحين ولباسهم.