شرح حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب
ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا حال الأمم التي عرضت عليه كل أمة مع رسولها، وذكر سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بغير حساب وذكر لنا أوصافهم وهذا ما سنتعرف عليه في هذا الحديث.
حديث السبعين ألفا
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عرضت علي الأمم، فأجد النبي يمر معه الأمة، النبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة،
والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير،
قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟
قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).
فقام إليه عُكَّاشة بْنُ مِحْصَنٍ فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (اللهم اجعله منهم). ثم قام إليه رجل آخر قال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (سبقك بها عكاشة)[البخاري]
شر ح حديث الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون
في هذا الحديث وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم أربعة: الذين لا يكتوون، والذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
وهذا يتطلب الحديث عن كل واحد على حده:
الشفاء في ثلاثة
عن ابن عباس -رضي اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وكيَّة نَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ)[البخاري]
والمعنى أن أصول الأشياء التي يكون فيها الشفاء ثلاثة:
شربة عسل
أولها : شربة عسل؛ لأن الله أثنى عليه في القرآن فقال: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
الحجامة
وثانيها: شرطة محجم وهي الآلة التي يشرط بها موضع الحجامة ويطلق على الآلة التي تمص الدم وتجمعه،
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم)[البخاري]
الكي بالنار
وثالثها: كية بنار ويكون بإحماء حديدة بالنار ويمس بها موضع الألم من الجسم، وهذا النوع من العلاج نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهي كراهة لا نهي تحريم لما فيه من الألم والعذاب.
ومن هذا يتبين لنا أن ما ورد في الحديث هنا في وصف السبعين ألفا أنهم لا يكتوون أن المقصود بذلك هؤلاء الذين كانوا يبادرون إلى الكي لظنهم الشفاء فيه دون غيره واعتقادهم أنه يحسم مادة المرض بطبعه.
قال الحافظ ابن حجر: إنما نهى عنه مع إثباته الشفاء فيه إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم المادة بطبعه، فكرهه لذلك،
ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء، لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار، لأمر مظنون، وقد لا يتفق أن يقع له ذلك المرض، يقطعه الكي،
ثم قال: لا يترك الكي مطلقا، ولا يستعمل مطلقا، بل يستعمل عند تعينه طريقا إلى الشفاء مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى، وعلى هذا يحمل حديث المغيرة رفعه (من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل) أخرجه الترمذي. اهـ
وقال الخطابي: الكي يستعمل في الخلط الباغي الذي لا تنحسم مادته إلا به، ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها: آخر الدواء الكي، وقد كوى النبي -صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ وغيره، واكتوى غير واحد من الصحابة. اهـ
حكم الاسترقاء أي طلب الرقية
وردت أحاديث كثيرة صحيحة تبيح الرقية بل وتحث عليها، وكان مما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته أن استرقى.
فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن، فأمسح بيد نفسه لبركتها.
فسألت ابن شهاب: كيف كان ينفث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه.[البخاري]
والجمع بين حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب الذي يفيد النهي عن الرقية والأحاديث التي يأمر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرقية
أن هذا النهي عن الرقية يقصد به الرقية التي كان يرقي بها الكفار مما يخالف صحيح الاعتقاد.
أو الرقى التي لا يفهم معناها فربما كانت كفرا أو قريبة من الكفر ولا يدري صاحبها عنها شيئا، سواء كانت بغير اللغة العربية أو كان بألفاظ غير مفهومة باللغة العربية.
أما الرقى التي تكون بآيات من القرآن أو أذكار من السنة فلا نهي فيها بل هي سنة.
قال المازري: جميع الرقى جائزة إذا كانت بكتاب الله تعالى أو بذكره، ومنهي عنها إذا كانت باللغة العجمية أو بما لا يدرى معناه لجواز أن يكون فيه كفر.
والرقى التي ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يكن بها شرك فإنها جائزة.
عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)[مسلم]
حكم التطير
كان من عادات الناس في الجاهلية التطير أي التشاؤم، فكان الرجل إذا خرج لحاجته من سفر ونحوه فطارت الطير عن يمينه تفاءل وانطلق لحاجته، وإذا طارت عن يساره تشاءم ورجع.
فأبطل الإسلام هذه العادات الباطلة وعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ينغي على المسلم قوله فقال: (إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله).
الفأل الحسن
أما التفاؤل والاستبشار فلا شيء فيه فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل الصالح.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطيرة)[ابن ماجه]
التوكل على الله
التوكل على الله هو الثقة بالله والاستسلام لأمره والإيمان بقضائه وقدره، واتباع سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فقد كان من سنته صلى الله عليه وسلم الأخذ بالأسباب مع تسليم القلب لرب الأسباب، فكان يسعى من أجل طعامه وشرابه قال الله: (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام).
وكان يحترز من عدوه فيأخذ بالأسباب في الحروب مع كونه متوكل على ربه واثق من نصره.
فقد ذكر رجل للحسن البصري قصة عن عامر بن عبد الله أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء فحال الأسد بينهم وبين الماء فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: قد خاطرت بنفسك قال: لأن تختلف الأسنة فى جوفى خير لى من أن يعلم الله أنى أخاف شيئًا سواه.
فقال الحسن البصري: قد خاف من كان خيرًا من عامر موسى -عليه السلام- حين قيل له: (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين فخرج منها خائفًا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين) وقال: (فأصبح فى المدينة خائفًا يترقب)
وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى قلنا لاتخف إنك أنت الأعلي) قالوا: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بنى آدم كاذب، وقد طبعهم الله على الهرب مما يضرهم.
للاطلاع على المزيد:
- شرح حديث الطهور شطر الإيمان
- شرح حديث اجتنبوا السبع الموبقات
- شرح حديث من سلك طريقا يلتمس فيه علما
- شرح حديث كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل