ولما تمّ له صلّى الله عليه وسلم من العمر اثنتا عشرة سنة، سافر عمه أبو طالب إلى الشام في ركب للتجارة، فأخذه معه.
مقابلة بحيرى الراهب ببصرى
ولما نزل الركب (بصرى) مروا على راهب هناك يقال له (بحيرا) وكان عليما بالإنجيل خبيرا بشؤون النصرانية وهناك أبصر بحيرا النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فجعل يتأمله ويكلمه، ثم التفت إلى أبي طالب فقال له:
ما هذا الغلام منك؟
فقال: ابني (وكان أبو طالب يدعوه بابنه لشدة محبته له وشفقته عليه) فقال له بحيرا:
ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون أبو هذا الغلام حيا. فقال: هو ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال بحيرا: صدقت. فارجع به إلى بلده واحذر عليه يهود فو الله لئن رأوه هنا ليبلغنّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم. فأسرع به أبو طالب عائدا إلى مكة
]باختصار عن سيرة ابن هشام: 1/ 180 ورواه الطبري في تاريخه: 2/ 287 ورواه البيهقي في سننه وأبو نعيم في الحلية. ويوجد بين هذه الروايات بعض الخلاف في التفصيل،
وانفرد الترمذي بروايته مطولا على نحو آخر، ولعل في سنده بعض اللين، فقد قال هو نفسه بعد أن رواه: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) .
وفي سنده عبد الرحمن بن غزوان قال عنه في الميزان: له مناكير، ثم قال: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق، في سفر النبي صلّى الله عليه وسلم وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام.
وقال عنه ابن سيد الناس: في متنه نكارة (راجع عيون الأثر: 1/ 43) . والغريب أن الشيخ ناصر الدين الألباني قال عنه- رغم هذا- في تخريجه لأحاديث (فقه السيرة) للغزالي: إسناده صحيح..
ولم ينقل من تعليق الترمذي عليه إلا قوله: هذا حديث حسن.. ومن عادته أن يضعف ما هو أصح من هذا الحديث بكثير.. هذا وأما القدر المشترك من القصة فثابت بطرق كثيرة لا يلحقها وهن[
النبي يشتغل برعي الغنم
ثم أخذ رسول الله يستقبل فترة الشباب من عمره فبدأ بالسعي للرزق وراح يشتغل برعي الغنم، ولقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه فيما بعد: «كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة» ]رواه البخاري[.
حفظ الله لنبيه
وحفظه الله من كل ما قد ينحرف إليه الشبان من مظاهر اللهو والعبث. قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن نفسه:
«ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني الله بالرسالة. قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل،
فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني، فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبي، فسألني فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء».
]رواه ابن الأثير ورواه الحاكم عن علي بن أبي طالب وقال عنه: صحيح على شرط مسلم. ورواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر[
العبر والعظات
علم أهل الكتاب ببعثة النبي
يدل حديث بحيرا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو حديث رواه عامة علماء السيرة ورواتها وأخرجه الترمذي مطوّلا من حديث أبي موسى الأشعري- على أن أهل الكتاب من يهود ونصارى، كان عندهم علم ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام ومعرفة بعلاماته، وذلك بواسطة ما جاء في التوراة والإنجيل من خبر بعثته وبيان دلائله وأوصافه. والدلائل على ذلك كثيرة مستفيضة.
فمنها ما رواه علماء السيرة من أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل مبعثه ويقولون: إن نبيا سيبعث قريبا سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، ولما نكثوا عهدهم أنزل الله في ذلك قوله: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة 2/ 89] .
وروى القرطبي وغيره أنه لما نزل قول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 146]
سأل عمر بن الخطاب عبد الله بن سلام وقد كان كتابيا فأسلم: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، أما ابني فلا أدري ما الذي قد كان من أمّه. ولقد كان سبب إسلام سلمان الفارسي تتبع خبر النبي صلّى الله عليه وسلم وصفاته من الإنجيل والرهبان وعلماء الكتاب.
ولا ينافي هذا أن كثيرا من أهل الكتاب ينكرون هذا العلم، وأنّ الأناجيل المتداولة خالية عن الإشارة إلى ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم. فمن المعلوم بالبداهة ما تقلّب على هذه الكتب من أيدي التبديل والتغيير المتلاحقة. وصدق الله إذ يقول في محكم تبيانه:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة 2/ 78، 79] .
إقبال النبي على رعي الغنم واكتساب الرزق له دلالات
أما إقباله على رعي الأغنام لقصد اكتساب القوت والرزق ففيه ثلاث دلالات هامة:
الأولى: الذوق الرفيع والإحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بهما نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم. لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنوّ والشفقة كالأب الشفوق،
ولكنه صلّى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب، ويجهد جهده لرفع بعض ما يمكن رفعه من مؤونة الإنفاق عن عمه. وربما كانت الفائدة التي يجنيها من وراء عمله الذي اختاره الله له، فائدة قليلة غير ذات أهمية بالنسبة لعمه أبي طالب، ولكنه على كلّ تعبير أخلاقي رفيع عن الشكر، وبذل للوسع، وشهامة في الطبع، وبرّ في المعاملة.
الثانية: وتتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين في دار الدنيا.
لقد كان سهلا على القدرة الإلهية أن تهيئ للنبي صلّى الله عليه وسلم، وهو في صدر حياته، من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعيا وراء القوت.
ولكن الحكمة الإلهية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكدّ يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه، وشر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أي تعب في سبيله، ودون أن يبذل أي فائدة للمجتمع في مقابله.
لم يتكسب النبي من وراء دعوته
الثالثة: إن صاحب أي دعوة، لن تقوم لدعوته أي قيمة في الناس إذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته أو على أساس من عطايا الناس وصدقاتهم. ولذا فقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أحرى الناس كلهم بأن يعتمد في معيشته على جهده الشخصي أو مورد شريف لا استجداء فيه حتى لا تكون عليه لأحد من الناس منة أو فضل في دنياه فيعوقه ذلك عن أن يصدع بكلمة الحق في وجهه غير مبال بالموقع الذي قد تقع من نفسه.
وهذا المعنى وإن لم يكن قد خطر في بال الرسول صلّى الله عليه وسلم في هذه الفترة، إذ إنه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأن الدعوة والرسالة الإلهية، غير أن هذا المنهج الذي هيأه الله له ينطوي على هذه الحكمة ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لا يكون في شيء من حياة الرسول قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أي تأثير سلبي، فيما بعد البعثة.
عصمة الله لنبيه من الوقوع في الخطأ
وفيما قصه النبي صلّى الله عليه وسلم عن نفسه من خبر حفظ الله إياه من كل سوء منذ صغره وصدر شبابه، ما يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية:
الأولى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان متمتعا بخصائص البشرية كلها، وكان يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها. فكان يحس بمعنى السمر واللهو ويشعر بما في ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشيء من ذلك كما يتمتع الآخرون.
الثانية: أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف وعن كل ما لا يتفق مع مقتضيات الدعوة التي هيأه الله لها، فهو حتى عندما لا يجد لديه الوحي أو الشريعة التي تعصمه من الاستجابة لكثير من رغائب النفس، يجد عاصما آخر خفيا يحول بينه وبين ما قد تتطلع إليه نفسه مما لا يليق بمن هيأته الأقدار لتتميم مكارم الأخلاق وإرساء شريعة الإسلام.
وفي اجتماع هاتين الحقيقتين لديه صلّى الله عليه وسلم دليل واضح على أن ثمة عناية إلهية خاصة تسيّره وتأخذ بيده بدون وساطة الأسباب المعروفة كوسائل التربية والتوجيه، ومن ذا الذي يوجهه في طريق هذه العصمة وكل الذين حوله من أهله وبني قومه وجيرانه، غرباء عن هذا الطريق، ضالون عن هذه الوجهة؟
لا جرم إذن أن هذه العناية الإلهية الخاصة التي جعلت لشباب النبي صلّى الله عليه وسلم طريقا دقيقا من النور يمخر عباب ظلام الجاهلية، من أعظم الآيات الدالة على معنى النبوة التي خلقه الله لها وهيأه لحمل أعبائها، وعلى أن معنى النبوة هو الأساس في تكوين شخصيته واتجاهاته النفسية والفكرية والسلوكية في الحياة.
كان من اليسير على الله أن يهيء لنبيه حياة هانئة
وكان من اليسير أن يولد الحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلم، وقد انتزعت من نفسه كل هذه الدوافع الغريزية إلى التمتع بالشهوات والأهواء، فلا يجد في نفسه ما يدفعه أصلا إلى ترك أغنامه أمانة عند زميله ليهبط إلى بيوت مكة فيبحث بينها عن قوم يسمرون أو يلهون ويمرحون.
غير أن ذلك لا يدل حينذاك على أكثر من شذوذ في تركيبه النفساني، وهي ظاهرة يوجد لها نماذج في كل قوم وعصر، وإذن فليس ثمة ما يدل على العناية الخفية التي تصرفه عما لا يليق رغم وجود الدوافع الغريزية نحوه. وإنما اقتضت حكمة الله عز وجل أن يتبدى للناس من هذه العناية الإلهية بالرسول الكريم ما يسهل عليهم أسباب الإيمان برسالته ويبعد عن أفكارهم عوامل الريب في صدقه
من كتاب فقه السيرة النبوية للدكتور / محمد سعيد رمضان البوطي والعناوين زائدة على نص الكتاب.
للاطلاع على المزيد: