لا تَفْضُل كلمة أختها مجردة من حيث اللغة، فكل كلمة لها مدلولها ومعناها الذي تدل عليه، إلا من حيث سهولة النطق بها، وكثرة الاستعمال، ووضوح المعنى، لكن إذا نظمنا الكلام نجد التفاضل بين اللفظة وأختها من حيث وضعها في هذا النظم ودلالتها على المعنى المراد.
بلاغة نظم القرآن
يزداد نظم القرآن جمالا عندما نتأمل في دقة اختياره للألفاظ التي تبين لنا أن هذا النظم لا يصلح فيه غير هذا اللفظ ليؤدي هذا المعنى المطلوب، وهذا الاختيار الدقيق لا يمكن أن يصدر إلا من حكيم خبير لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
تدبر في ألفاظ آية
قال الله تعالى: (وَقِيلَ يَٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ)
لنتأمل سلالة ألفاظ هذه الآية، وسلاسة النطق بها، وعذوبتها في النطق بها من غير صعوبة ولا عسرة، ولنتأمل كيف طابقت ألفاظ هذه الآية الغرض المقصود منها، وأن ندرك دقة القرآن في استخدام الألفاظ في سياق النظم للدلالة على المعنى المراد منها.
وقيل يا أرض
جاء التعبير بالمبني للمجهول في قول الله: (وَقِيلَ). ولم يقل : “قال”. ليبين أن هذا الأمر صدر للكون دون أن يسمعه أحد ممن في الكون أو يروا قائله، ودلالة على تعظيم القائل وأنه مستغن عن ذكر نفسه لأن العقول لا تتخيل غيره، وهذا البناء للمجهول فيه تهويل للأمر وإعظام للحال.
وجاء النداء للأرض بلفظ : (يا). دون النداء “بالهمزة” مثلا لأنه لو جاء بالهمزة لاجتمعت همزة النداء مع همزة الأرض وحينها يكون هناك ثقل في النطق، ولم يأت النداء بـ “أيا” لما في هذا النداء من زيادة تنبيه وهذا يكون مناسبا عند نداء الغافل أما الأرض فليست في حاجة إليه لأنها رهن أمر الله.
وجاء التعبير عن الأرض بالتنكير في قوله: (يا أرض) دون التعريف “بأل” مثلا وذلك لتصغير أمرها فالمقام يستدعي التصغير والإسراع بتلبية أمر الله.
ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي
جاء التعبير بـقوله تعالى: (ابلعي) دون “امتصي” لأن المراد من الأرض أن تبتلع الماء بسرعة، أما الامتصاص فيفيد معنى البطء في امتصاص الماء وهذا ليس مطلوبا في هذه الحالة، فأفاد اللفظ سرعة الإجابة عند إرادة الله لحدوث الفعل.
وأضاف الله الماء إلى الأرض فقال: (ماءك) ليفيد قدرتها على ابتلاع الماء لأنه ماؤها وليس ماء غيرها.
وفي قول الله: (ويا سماء أقلعي). نجد تناسقا وتناغما موسيقيا بين لفظتي “ابلعي” و “أقلعي”
وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي
في قول الله: (وغيض). بالبناء للمجهول لتصوير حالة المشاهدين كأن الأمر حدث بصورة طبيعية دون تدخل من أحد، فغاب في باطن الأرض، وفيه تصديق واستجابة لأمر الله للأرض بقوله: (ابلعي).
وفي قول الله: (وقضي الأمر) إشارة إلى أن الله أنجز الأمر المراد من إهلاك الكافرين ونجاة نوح ومن معه في السفينة وخروجهم منها إلى الأرض لما أراده الله منهم بالعبادة وعمارة الأرض والتناسل فيها.
وعبرت الآية بـ (استوت) دون كلمة رست للدلالة على الثبات والاستقرار.
وقيل بعدا للقوم الظالمين
في قول الله: (وقيل بعدا للقوم الظالمين) حيث صدّر الدعاء بفعل القول المبني للمجهول ليبين أن هذا الدعاء صدر ممن لا يُحصى عددهم، كأن الكون كله كان يكرر هذا الدعاء.
واختيرت كلمة (بعدا) دون “هلاكا” لأن المراد إبعاد هؤلاء القوم عن الفساد في الأرض، وكأن الكون قد ارتاح منهم بعد أن تخلص منهم ومن شرورهم.
فلما كانت الآية مفتتحة بالعذاب العظيم من إهلاك الكافرين بالغرق ختمها الله بما يتناسب مع تلك البداية بسوء عاقبة الظالمين بالإبعاد والطرد من رحمة الله.، وهذا من حسن الفواتح والخواتم.
التدقيق في اختيار اللفظ الذي يدل على حقيقة الحال
من دقة القرآن في استخدام اللفظ في موضعه أنه أمر بوضع الألفاظ في مواضعها لتدل على الحقيقة المرادة منها من غير لبس ولا تمويه، كما في قول الله:
(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
سبب نزول هذه الآية أن جماعة من الأعراب من بني أسد بن خزيمة وهي قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام ولم يؤمنوا في السر، وإنما فعلوا ذلك من أجل أن ينالوا من المغانم، وكانوا يقولون لرسول الله: “أتيناك بالأنفال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا الصدقة وجعلوا يمنون عليه بإسلامهم”.
وهنا نجد أن هؤلاء الأعراب استخدموا لفظ الإيمان الذي يدل على معنى التصديق بالقلب، وإعلانهم الإسلام يدل على تصديقهم بالجوارح ليخفوا حقيقة أمرهم التي لا يعلمها إلا الله، فأمرهم الله بألا يقولوا ذلك لأن هذه ليست حقيقتهم، وإنما أمرهم بأن يستخدموا لفظ الإسلام الذي يدل على التصديق باللسان دون القلب.
وكلمة الإيمان والإسلام إذا جاءتا في سياق واحد كان لكل منهما مدلول يختلف عن الأخرى، فالإيمان معناه التصديق بالقلب. والإسلام معناه التصديق باللسان دون القلب. فإذا جاءت كل واحدة منهما منفردة عن الأخرى اشتملت كل منهما على معنى الأخرى.
ترك اللفظ الذي يشتمل معناه على الذم
كانت كلمة راعنا في اللغة العبرية لها معنى مذموم حيث كانوا يتسابون بها فيما بينهم وكان معناها عندهم: اسمع لا سمعت.
فلما رأى اليهود المؤمنين يخاطبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها خاطبوه بها وحرفوها، يقصدون بها سب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهى الله المؤمنين عن استخدام هذه الكلمة في تعاملهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمرهم أن يستخدموا كلمة أخرى وهي “انظرنا” لئلا يتخذ اليهود هذه الكلمة ذريعة لسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
دلالة اللفظ على حال المخاطبين
من دقة القرآن الكريم في استخدام الألفاظ أنه يذكر اللفظ الذي يدل على الحالة النفسية للمخاطبين كما في قول الله تعالى في وصف اليهود:
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
حيث جاءت لفظة “حياة” بالتنكير ولم يقل “الحياة” ليبين لنا حالة هؤلاء اليهود أنهم يحرصون على مطلق حياة، مهما كانت حقيرة أو ضئيلة؛ لأنهم يدركون أن الدنيا خير لهم من الآخرة؛ لأنهم لم يقدموا لأنفسهم عند الله خيرا.
دلالة الإضافة على حال المتكلم
وفي قول الله: (وَجِاْيٓءَ يَوۡمَئِذِۭ بِجَهَنَّمَۚ يَوۡمَئِذٖ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكۡرَىٰ ٢٣ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي)
وهنا في قول الله: (لحياتي) أضيفت كلمة حياة إلى ياء المتكلم لتصف حال الإنسان في هذا اليوم بأدق تعبير حيث يشاهد ويعاين أن هذه الآخرة هي الحياة الحقيقة التي كان يجب عليه أن يستعد لها أما حياة الدنيا فكانت مجرد سراب خادع .
وهو تعبير يصف حال العصاة والمفرطين وأسفهم على تقصيرهم في حق الله في يوم القيامة.
الفرق بين كلمة التراب والرماد والثرى
في التعبير القرآني نجد أن القرآن استخدم كلمة التراب وكلمة الرماد وكلمة الثرى في مواضع مختلفة، لكن كل واحدة في موضعها كانت دالة على المعنى المطلوب منها.
فجاء التعبير القرآني بكلمة “التراب” عند الكلام عن خلق الإنسان؛ لأن المقصود من الكلام هو أصل التراب، فقال الله: (أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا).
وعند التعبير عن أعمال الكافرين عبر بكلمة “الرماد” لأن المراد من الكلام بيان أن أعمال الكافرين لا قيمة لها ولا ينتفع صاحبها من ورائها بشيء، فكان التعبير المناسب عن هذا المعنى هو كلمة التراب التي تعبر عن ذرات الرماد الخفيف الذي لا يثبت أمام الريح، فقال الله:
(مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ).
وآثر القرآن التعبير بلفظة “الثرى” عند الكلام عن ملك الله وأن له كل ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى، فقال الله:
(لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ).
لأنه المراد بيان أن كل شيء داخل في ملك الله حتى ما تحت الثرى وهو التراب المبتل الذي يستقر عليه ماء البحار والمحيطات فالله يملك ما تحت هذا الثرى.