ما هي أسس المواطنة في شريعة الإسلام؟
الوطن هو المكان الذي يقيم به الإنسان لأمر ما، فهو موطن ومحل له، فموطن الإنسان هو موضعه الذي ينتسب إليه، ولكي يكون هناك رابط بين الإنسان والموطن الذي يعيش فيه لابد من وجود أسس تقوم عليها المواطنة، فمن هذه الأسس:
من أسس المواطنة إلغاء الفوارق
من أجل تحقيق المواطنة وخلق رباط بين المواطن والموطن الذي يسكن فيه ألغى الإسلام كل الفوارق التي لا دخل للإنسان فيها،
فأذاب فوارق الجنس واللون واللغة والعِرْق، وبين الإسلام للناس أنهم جميعا ينتسبون لأصل واحد وهو آدم -عليه السلام-؛ ليخلق عند الناس شعورا برابط الأخوة وأنهم جميعا كالإخوة في البيت الواحد.
قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
وأكد النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا المعنى الذي ورد في القرآن فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى)[أحمد]
التفاضل على أساس الأعمال الكسبية
إذا كان الإسلام يلغي الفوارق الوهبية التي يهبها الله للإنسان ولا دخل للإنسان فيها كجنسه ولونه ولغته، فإن الإسلام لا يلغي الفوارق الكسبية التي يكتسبها الإنسان بجهده وعمله،
فهي التي على أساسها يكون التفاضل بين الناس، لذك نجد أن الله فاضل بين الناس بسبب هذه الأعمال، فلم يساوي بين من خرج للجهاد في سبيل الله ومن قعد في بيته وهو قادر على الخروج.
فقال الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).
إقامة ميزان العدالة بين الناس
إذا أقيم بين الناس والذي على أساسه لا تكون هناك تفرقة بين غني وفقير، ولا وجيه وضعيف، بحيث يأخذ كل واحد حقه مقابل الواجب الذي يؤديه،
فالقوانين التي توضع لتنظم العلاقة بين الناس يجب أن تطبق على الجميع دون أن يكون فيها استثناء لأحد، لكن إذا كانت هناك استثناءات لأحد فإن هذا من شأنه أن يفقد الإنسان انتمائه لوطنه الذي يسكنه طالما أنه لا ينصف فيه أو يتعرض للظلم فيه.
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه أسامة.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)[البخاري]
ميزان العدالة لا ينظر إلى عقائد الناس
ميزان العدالة لا ينظر إلى عقائد الناس ليقيم العدل على أساسها، وإنما ينظر إلى صاحب الحق فيعطيه حقه بغض النظر عن دينه ومعتقده؛
لذلك لما أمر الله تعالى بإقامة العدل لم يأمر بإقامته بين المسلمين وحسب، وإنما أمر بإقامته بين الناس جميعا دون تمييز بينهم.
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا).
ومما يروى أن زيد بن السمين أودع درعا عند طعمة بن أبيرق ثم طلبها زيد منه فجحدها، فذهب زيد إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ليشتكيه،
فلما علم طعمة بذلك ألقى الدرع في بيت يهودي ثم أخبر قومه بذلك فذهبوا ليخبروا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأنهم رأوا الدرع عند اليهودي ليبرءوا ساحة طعمة.
فلما وجد النبي –صلى الله عليه وسلم- الدرع عند اليهودي همَّ رسول الله بمعاقبة اليهودي إلا أن الله تعالى أنزل ما يبرئ ساحة اليهودي وأمر نبيه أن يستغفر الله بسبب أنه هم بمعاقبة اليهودي الذي لا ذنب له، وعنف هؤلاء المجادلين عن طعمة من قومه؛ لأنه كان يجب عليهم أن ينتصفوا للحق دون نظر إلى عقيدة أو جنس.
فقال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا).
خلق الله الناس مختلفين ليتعارفوا
خلق الله الخلق متنوعين على أساس الجنس واللون واللغة والعرق، ولم يجعل هذا التنوع بين الناس من أجل أن يتحاربوا ويتقاتلوا وإنما من أجل أن يتعارفوا ليستفيد بعضهم من بعض، وليكمل بعضهم بعضا.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
الحرية الدينية
من معاني المواطنة في الإسلام أنه أرسى قواعد الحرية الدينية، وأمنهم على أنفسهم مهما اختلفت عقائدهم طالما أنهم لا يخرجون عن الميثاق السلمي للمجتمع.
فقال الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
فإن الله لم يأمرنا بأن نفرض على الناس الإيمان به؛ لأن الله يريد من الناس الإيمان به اختيارا وليس إجبارا، لذا أمرنا الله تعالى بأن نبلغ للناس رسالته ،
أما الهدى والضلال فهو بيد الله وحده لا بيد غيره، قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
وقال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
احترام عقائد المخالفين
من أسس المواطنة التي أرساها الإسلام أنه أمر باحترام عقائد المخالفين، فلا نسب ولا نجرح؛ لأننا إذا فعلنا ذلك فعلوا مثلنا، قال الله:
(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
لكن هذا ليس معناه أن لا نبلغ الحق الذي أمرنا الله بتبليغه لكن لابد وأن يكون هذا في جو من الاحترام المتبادل إلا إذا تجاوز أحد فإن هذا ينبغي أن يوقف عند حده بما يليق بحاله.
قال الله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
التفرقة بين الناس تخلق روح العداء للوطن
أما غرس روح التعالي بين الناس على أساس الجنس واللغة واللون فإن هذا مما يشجع على الفرقة ويخلق روح العداء في الإنسان للموطن الذي يعيش فيه،
وهذا هو منهج المفسدين في الأرض الذين يستمدون قوتهم وبقاءهم بإقامة العداء بين الناس؛ لأنهم يرون في وحدة الناس وتآلفهم خطرا على بقائهم ودوام الملك لهم.
قال الله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
للاطلاع على المزيد: