قصة يعقوب ويوسف عليهما السلام الجزء الثالث
ما زال الحديث موصولا حول قصة يعقوب ويوسف عليهما السلام، لما فسر يوسف –عليه السلام- رؤيا الملك وهو في السجن أمر الملك بإحضاره ليكون من خاصته.
رد يوسف لرسول الملك
رد يوسف –عليه السلام- الرسول وطلب نبي الله يوسف أن يبرئ الملك ساحته مما نُسب إليه من أمر النسوة؛ لئلا يكون كمجرم تم الصفح والعفو عنه.
استجواب الملك للنسوة
أحضر الملك النسوة وسألهن عن أمر يوسف فاعترفن بأنهن ما علمن عليه من سوء، واعترفت زليخا امرأة العزيز بأن الحق قد ظهر واتضح وأن يوسف بريء ولم يراودها وإنما حبس ظلما.
وأراد يوسف بذلك أن يعلم زوج زليخا الذي أكرمه أنه لم يخنه في أهل بيته، أو أن امرأة العزيز أرادت باعترافها هذا أن يعلم زوجها أنها كانت مجرد مراودة لم يقع معها الفاحشة، فلما ظهرت للمك براءة يوسف عرض عليه أن يكون من خاصته ومن أكابر دولته وجعله ذو مكانة عنده،
قال الله: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ).
يوسف عليه السلام عزيز مصر
أصبح يوسف –عليه السلام- من خاصة الملك، وطلب يوسف منه أن يوليه خزائن الطعام لتوقعه حصول الضرر في هذا الأمر؛ ليقوم بالواجب عليه من رعاية البلاد والعباد.
فطَلَبُ يوسف –عليه السلام- الولاية لنفسه دليل على جوازها لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة، لقد بين يوسف -عليه السلام- جدارته للقيام بهذه المهمة بذكره لأمرين يحتاج إليهما كل من يتولى أمرا من أمور الناس وهما الأمانة والعلم بما يقوم الإنسان بإدارته، وكلاهما لا يغني عن الآخر بل لابد من اجتماعهما،
قال الله تعالى: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
لقد عظم الملك نبي الله يوسف وألبسه الحرير والذهب وزوجه من امرأة عظيمة الشأن وكان ابن ثلاثين سنة، واستوثق ليوسف ملك مصر، وعمل فيهم بالعدل فأحبه الرجال والنساء،
وقيل: إن قطفير أو فوطيفار زوج زليخا قد مات، فولى الملك يوسف موضعه، وزوجه امرأته زليخا فكان وزير صدق، وقد أسلم الملك على يد يوسف -عليه السلام-.
مجيء إخوة يوسف يطلبون الطعام
لما أتت سنوات الجدب على مصر وسائر البلاد جاء إخوة يوسف إلى الديار المصرية يطلبون الطعام، وكان يوسف –عليه السلام- يومها الحاكم في مصر دينا ودنيا.
فلما دخل إخوة يوسف عليه عرفهم ولم يعرفوه؛ لأنه لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف من المكانة والعظمة فسألهم عن حالهم، وكم عددهم فقالوا: “كنا اثنى عشر رجلا فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا”. فقال لهم: “إذا قدمتم العام القادم فأتوني به معكم ولا كيل لكم إن لم تأتوني به”.
فأعطاهم يوسف –عليه السلام- ما جرت به العادة من الطعام مما يحمله البعير على ظهره، ورهبهم إن لم يأتوه بأخيهم هذا فلن يعطيهم شيئا، فأخبروه أنهم سيجتهدون في إقناع أبيهم،
ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم التي جاءوا يشترون بها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون، ليرجعوها إذا رجعوا إلى بلادهم، وقيل: تحرج أن يأخذ منهم شيئا فربما يكونون في حاجة إليها.
قال الله تعالى: (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
رجوع إخوة يوسف إلى أبيهم
لما رجع إخوة يوسف إلى أبيهم وأخبروه الخبر أنه إن لم يرسل بنيامين معهم فلن يكون لهم عند الملك طعام، وكان يعقوب -عليه السلام- لا يترك ولده بنيامين؛ لأنه كان يشم فيه رائحة يوسف، ويتسلي به عنه، فعزم على ألا يعطيهم أخاهم إلا إذا أعطوه المواثيق على أن يحفظوه إلا أن يكون في قدر الله أمر آخر،
فأعطوه العهد والميثاق، ولولا حاجتهم للطعام لما أعطاهم ولده، وأمرهم أن لا يدخلوا من باب واحد لئلا تصيبهم العين؛ لأنهم كانوا أشكالا حسنة وصورا بديعة، وقيل: طلب ذلك لعلهم يجدوا خبرا عن يوسف.
قال الله تعالى: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون)
لقاء يوسف بأخيه بنيامين
لما رجع إخوة يوسف ومعهم أخوهم بنيامين آواه يوسف إليه وأخبره سرا أنه أخوه وأمره بكتم ذلك، ثم احتال على أخذه منهم فأمر فتيانه بوضع سقايته التي يشرب منها ويكيل بها للناس الطعام في متاع بنيامين،
ثم انطلق إخوة يوسف راجعين إلى أبيهم فانطلق وراءهم الحراس وأعلموهم بأنهم سرقوا صواع الملك، فردوا على حرس الملك أنهم ما جاءوا للسرقة، فسأل الحراس إخوة يوسف عن جزاء من يفعل ذلك عندهم فأخبروهم أن السارق يصير عبدا عند المسروق منه فوجدوا الصواع في حمل بنيامين، فأخذ يوسف بنيامين منهم.
قال الله: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)
اتهام إخوة يوسف أخاهم يوسف بالسرقة
لما وجد إخوة يوسف صواع الملك في حمل بنيامين قالوا ما حكاه القرآن: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ)
وقصة السرقة التي اتهم بها إخوة يوسف أخاهم يوسف ملخصها: أن يوسف كان عند عمته بعد موت أمه “راحيل” لتقوم على تربيته، فلما ترعرع يوسف أراد يعقوب أن يأخذه منها وقال: يا أختاه سلمي لي يوسف فوالله لا أقدر على أن يغيب عني ساعة.
وكانت عمته لا تقوى على فراق يوسف لها فعمدت إلى حيلة فشدت تحت ثيابه منطقة (حزام) كانت لإسحاق -عليه السلام- وكانوا يتوارثونها بالكبر ويوسف لا يعلم، فأتت به إلى أبيه ثم ادعت أنها فقدت منطقة إسحاق، فبحثوا عنها فوجدوها تحت ثيابه، فقالت: هو سلم لي أي أسير عندي أفعل به ما أشاء.
وكان من شرعهم أن من سرق يسترق، وظل عندها حتى ماتت، وقد فعلت ذلك ليكون عندها وفي حضانتها لمحبتها له، فقد كانت لا تستطيع أن يغيب يوسف عن ناظريها، وقيل: كان يوسف –عليه السلام- يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء.
لذلك أجابهم يوسف في نفسه سرا بقوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) فطلبوا منه أن يأخذ أحدهم ويُطلِق أخاهم فأخبرهم أنه لا يأخذ إلا من وجد متاعه عنده.
رجوع إخوة يوسف إلى أبيهم بدون بنيامين
لما يئس إخوة يوسف من أن يأخذوا أخاهم بنيامين معهم من عند عزيز مصر الذي كان وقتها هو يوسف -عليه السلام- رجعوا إلى أبيهم بدون بنيامين وبدون روبيل أخاهم الأكبر الذي مكث في مصر وقال: لن أبرح موضعي حتى يأذن لي أبي بالقدوم عليه.
وأخبروا أباهم بما حدث لأخيهم من أخذ عزيز مصر له؛ لأنه سرق صواعه وهذا الأمر قد اشتهر وعلمه الناس الذين كانوا معهم، لكن يعقوب –عليه السلام- قال: ليس الأمر كما ذكرتم فلم يسرق فإنه ليس خلقا له، ودعا الله أن يرد عليه يوسف وبنيامين وروبيل.
ثم أعرض عن بنيه وتذكر حزنه القديم على يوسف وابيضت عيناه من كثرة البكاء، فلما رأى أبناؤه ذلك قالوا على سبيل الرحمة: “لا تزال تتذكر يوسف حتى ينحل جسدك وتضعف قوتك فلو رفقت بنفسك كان أولى بك”.
فقال لهم: لست أشكو لكم وإنما أشكو إلى الله وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجا، فلابد لرؤيا يوسف أن تتحقق.
قال الله تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
ثم أمر يعقوب بنيه بالرجوع ليبحثوا عن يوسف وأخيه ولا ييأسوا من فرج الله بعد الشدة، قال الله تعالى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
مواجهة يوسف عليه السلام لإخوته
رجع إخوة يوسف إليه يشتكون له الجدب وضيق الحال، ولما رأى يوسف ما آل إليه حال إخوته من ضيق الحال، عرَّفهم بنفسه وكشف لهم عن جبينه وما يحويه مما يعرفونه به فتعجبوا كل العجب وقالوا: (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ).
فأجابهم بأنه يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم، وهذا أخي قد أكرمنا الله بإحسانه إلينا، فاعترفوا بتفضيل الله له وخطئهم فيما فعلوا معه، فلم يعاتبهم واستغفر الله لهم، ثم أمرهم أن يذهبوا بقميصه الذي يلي جسده فيضعوه على عين أبيه فإنه سيرجع بصره بعد ما كان ذهب، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوة، وأمرهم أن يأتوا إليه بأهلهم إلى ديار مصر حيث الخير وجمع الشمل بعد الفرقة.
قال الله تعالى: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).