نبي الله إبراهيم هو ابن تارح بن ناحور، وينتهي نسبه إلى سام بن نوح، وهو أبو الأنبياء؛ لأن كل الأنبياء الذين أتوا من بعده إنما هم من ذريته.
اسم والد نبي الله إبراهيم
اختلف العلماء في اسم والد نبي الله إبراهيم فأهل النسب قالوا بأن اسمه تارح، وأهل الكتاب قالوا: تارخ بالخاء، وقال ابن جرير: الصواب أن اسم أبيه آزر؛ لقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). ولعل له اسمان أحدهما: لقب له، والآخر: علم.
إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء
إبراهيم -عليه السلام- هو أبو الأنبياء، فولده إسحاق من نسله كل أنبياء بني إسرائيل الذين خُتِموا بعيسى ابن مريم -عليهم السلام أجمعين- وابنه إسماعيل من نسله خاتم الأنبياء والمرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- قال الله:
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ).
نشأة نبي الله إبراهيم
نشأ إبراهيم -عليه السلام- بأرض بابل وهي أرض الكلدانيين وهي بالعراق وكان قومه يعبدون الأصنام التي لا تسمع عابدها ولا تبصر مكانه.
وتزوج نبي الله إبراهيم بسارة وكانت عاقرا لا تلد، وقد أنار الله بصيرة إبراهيم -عليه السلام- فعلمه أن هذه أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، فآتاه الله رشده في صغره وابتعثه رسولا واتخذه خليلا في كبره، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ).
دعوة نبي الله إبراهيم لأبيه
بدأ نبي الله إبراهيم يدعوا كل من حوله إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام، فدعا أباه وتلطف في دعوته ليترك ما هو عليه، وكان والد إبراهيم -عليه السلام- ممن يعبدون الأصنام وكان يعمل نجارا ينحت الأصنام ويبيعها لمن يعبدها، فدعا إبراهيم والده بألطف عبارة وأحسن إشارة فبين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا ترى مكانه، فكيف تغني عنه شيئا أو تفعل له خيرا، ولكن أباه لم يقبل نصيحته وتهدده وتوعده وطلب منه أن يفارقه بالهجران وذلك بعد أن عجز على أن يرد على حجته.
قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)
لما أغلظ والد إبراهيم القول له أحسن إبراهيم في الرد عليه ووعده بأن يستغفر له، قال الله: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)
لكن لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، قال الله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
رؤية نبي الله إبراهيم لأبيه في الآخرة
أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رؤية نبي الله إبراهيم لأبيه في الاخرة فقال: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟
فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ [هو ذكر الضبع الكثير الشعر أي أراه الله أباه على غير هيئته ليسرع إلى التبرؤ منه] متلطخ [متلوث بالدم] فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)[البخاري].
دعوة نبي الله إبراهيم لقومه
كما دعا نبي الله إبراهيم أباه إلى عبادة الله دعا قومه أيضا إلى ترك عبادة الأصنام، قال الله تعالى: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ)
لقد ناقش إبراهيم -عليه السلام- قومه في عبادتهم لتلك الأصنام وسألهم هل هي تسمع دعاءكم أو ينفعونكم بشيء أو يضرونكم إذا عصيتم أمرهم، فلم يكن عندهم جواب إلا أنهم وجدوا آباءهم يفعلون ذلك.
قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)
تعجب قوم إبراهيم من كلامه لهم عن تلك الأصنام التي يعبدونها وظنوه يمازحهم، قال الله: (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ).
موقف نبي الله إبراهيم من الأصنام
لما وجد إبراهيم –عليه السلام- إصرار قومه على عبادة الأصنام أقسم ليحطمن هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله بعد أن يذهبوا إلى عيدهم، وكانوا يذهبون في هذا العيد إلى خارج البلد فدعاه أبوه ليحضر معهم فقال: إني سقيم. أي عَرَّض لهم بمعنى أن يقول كلاما يفهمه السامع بمعنى وهو يقصد معنى آخر،
فلما خرجو واستقر هو في البلد ذهب إلى أصنامهم مسرعا فوجدها في بهو عظيم وقد وضعوا بين أيديها أنواعا من الأطعمة قربانا لها فقال لها على سبيل التهكم والازدراء: (أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ). وقال الله تعالى: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).
فلما حطم إبراهيم –عليه السلام- الأصنام ورأى قومه ذلك لما رجعوا من عيدهم أتوا به أمام الناس ليحاكموه على فعلته حتى لا يتجرأ غيره على مثل ما فعل، وكان هذا هو ما يريده إبراهيم أن يجتمع كل الناس ليقيم الحجة عليهم فلما سألوه: أأنت فعلت هذا؟
عَرَّض لهم في الإجابة : قال بل فعله كبيرهم هذا. حتى يبادروا إلى القول بأنها لا تنطق فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات، فلما أثبت لهم إبراهيم بطلان ما هم عليه واعترفوا أنها لا تنطق ولم يجدوا حجة لجئوا إلى استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من عبادة الأصنام فأمروا بحرقه.
قال الله: (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ).
عزم قوم إبراهيم على إحراقه
عزم قوم إبراهيم –عليه السلام- على إحراقه لينصروا أصنامهم التي يعبدونها من دون الله لما عجزوا عن مواجهة الحجة بالبرهان والدليل، فنصره الله عليهم.
فشرع قوم إبراهيم في جمع الحطب من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبراهيم، ثم جاءوا إلى حفرة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار، فاضطربت وتأججت وعلا شرر لم ير مثله قط.
ثم وضعوا إبراهيم –عليه السلام- في كفة منجنيق وهي آلة تستخدم في الحرب ترمى بها الحجارة من بعيد؛ وذلك لأنهم لا يستطيعون أن يقتربوا من النار، ثم أخذوا يقيدونه ويُكَتِّفُونه وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك.
فلما ألقوه من المنجنيق إلى النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له وهو في الهواء فقال: يا إبراهيم ألك حاجة فقال: أما إليك فلا، فلم تحرق النار سوى وثاقه الذي قيدوه به، وكان في النار في روضة خضراء، الناس ينظرون إليه ولا يقدرون على الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم، وروي أنه مكث في النار أربعين أو خمسين يوما، فعلوا ذلك لتكون العزة لهم فجعلهم الله أذلة.
قال الله تعالى: (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ).
وعن أم شريك -رضي الله عنها-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل الوزغ [يسميه العامة في دمشق أبا بريص وهو الذي يكون في الجدران والسقوف] وقال: (كان ينفخ على إبراهيم -عليه السلام-)[البخاري].
مناظرة نبي الله إبراهيم مع النمرود
جرت مناظرة بين إبراهيم -عليه السلام- والنمرود ملك بابل وكانت الغلبة فيها لنبي الله إبراهيم، وأخزى الله ذلك الكافر، قال الله: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ).
النمرود كان ملك على “بابل” وهو أحد ملوك الدنيا قد أراد أن ينازع الله العظمة والكبرياء، فادعى الربوبية فدعاه إبراهيم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، لكن حمله الجهل والضلال على إنكار خالق هذا الكون.
قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).
فأراد أن يثبت صحة كلامه هذا فأتى برجلين قد تحتم قتلهما فحكم على أحدهما بالموت وعفا عن الآخر، وكأنه بذلك أحيا وأمات، والحقيقة أنه كلام خارج سياق المناظرة وإنما هو مجرد تشغيب لا معنى له ولا علاقة له بكلام إبراهيم، فذكر له إبراهيم دليلا آخر يبين وجود الخالق لهذا الكون فالأدلة كثيرة فلا داعي للوقوف عند دليل واحد فقال: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
لما كفر هذا الملك الجبار ولم يتعظ ولم يعتبر أرسل الله على جيشه وقت طلوع الشمس ذباب من البعوض بحيث حجبت عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركت عظامهم بالية ودخلت واحدة منها في منخر الملك فمكثت في منخره يعذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب حتى أهلكه الله بها.
هجرة نبي الله إبراهيم إلى بلاد الشام
لما يئس نبي الله إبراهيم من إيمان قومه هجرهم في الله، وقد هاجرت معه زوجته سارة وكانت عاقرا لا تلد، ومعه لوط بن هاران وهو ابن أخيه.
فخرج إبراهيم من أرض الكلدانيين التي بالعراق إلى أرض الكنعانيين من بلاد الشام فأقام بحران وكانوا قوما يعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال، والذين عمروا دمشق كانوا على هذا الدين، ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها ويعملون لها أعيادا وقرابين، وكل من كانوا على وجه الأرض كانوا كفارا سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه، وقد أزال الله بهم تلك الشرور وأبطل به هذا الضلال، قال الله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
فناظر نبي الله إبراهيم هؤلاء الذين يعبدون الكواكب وتدرج معهم في الجدال حتى ألزمهم الحجة وبين لهم أن المعبود لا يغيب عن الناس ولا يغيب عنه شيء.
فبين إبراهيم لهؤلاء أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب لا تصلح للألوهية؛ لأنها مصنوعة تطلع تارة وتغيب عن هذا العالم، والإله الحق يجب ألا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية، وهو الدائم الذي لا يزول، لا إله إلا هو ولا رب سواه.
قال الله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)
هجرة نبي الله إبراهيم بزوجته إلى أرض مصر
لما حدث جدب وقحط وغلاء بالأرض التي كان فيها نبي الله إبراهيم هاجر هو وزوجته سارة إلى أرض مصر، وكان بها ملك ظالم فنجاهما الله منه.
فالأرض التي أقام بها إبراهيم –عليه السلام- هي بلاد الشام حيث أقام قبته شرقي بيت المقدس، قال الله: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ).
فلما حدث جدب هاجر ومعه سارة زوجته إلى مصر وكانت باهرة الحسن، فلما علم ملك مصر بذلك سأله عنها فأخبره أنها أخته ويعني بذلك أنها أخته في دين الله وأخبرها أنه ليس على ظهر الأرض مؤمن غيري وغيرك ويعني بذلك زوجين مؤمنين، وذلك لأنه كان هناك لوط ابن أخيه وكان رسولا، ولعل هذا الذي فعله إبراهيم كان بوحي من الله؛ فمثل إبراهيم لا يخاف الموت ولا الأذى في سبيل الله، وربما أراد الله أن يعطي هذا الملك درسا يعلمه أن هناك من هو أقدر عليه، فلما أرسل الملك إلى زوجة إبراهيم استعانت بالصلاة
فقد قال الله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) فلم يُمَكِّن الله هذا الفاجر منها، وإنما أطلقها وأعطاها هاجر خادمة لها وأعطاهم الكثير من المال، فجاءت إلى إبراهيم وقالت له: كفى الله كيد الظالم وأخدمني هاجر.
رجوع نبي الله إبراهيم من مصر إلى بلاد الشام
رجع إبراهيم –عليه السلام- من مصر إلى الأرض المقدسة ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل ومعهم هاجر المصرية، وكان هذا من ملك مصر الذي أخافه الله لما أراد السوء بسارة.
لما رجع نبي الله إبراهيم بهذا المال الكثير أعطى جزءا من هذا المال للوط -عليه السلام- ثم أمره أن يذهب إلى أرض سادوم في دائرة الأردن، وكان أهلها أشرارا كفارا فجارا، وأوحى الله إلى إبراهيم أن يمد بصره شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وبشره بأن هذه الأرض كلها سيجعلها له ولذريته، وقد اتصلت هذه البشارة بهذه الأمة،
ويؤيد ذلك قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض…)[مسلم].
ميلاد إسماعيل عليه السلام
لما مكث إبراهيم –عليه السلام- ببلاد بيت المقدس عشرين عاما أعطت سارة هاجر أمتها لزوجها أملا أن يرزقه الله منها الولد الصالح الذي تقر به عينه.
قالت سارة زوجة إبراهيم -عليه السلام- له: إن الرب قد حرمني الولد، فادخل على أمتي هذه لعل الله يرزقك منها ولدا، فلما وهبتها لإبراهيم -عليه السلام- دخل بها فحملت منه، فلما حملت غارت منها سارة، فخافت هاجر فقال لها الملك: لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيرا.
وذكر لها أنها ستلد ابنا وتسميه إسماعيل وتكون يده على الكل، ويملك جميع بلاد إخوته، وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه الذي به سادت العرب وملكت جميع البلاد غربا وشرقا، وولدت هاجر إسماعيل ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة.
كان إبراهيم –عليه السلام- لما هاجر من بلاد قومه سأل الله أن يهبه الولد، قال الله: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، فبشره الله بغلام حليم وهو إسماعيل؛ لأنه أول من ولد له وكانت سن إبراهيم ست وثمانون سنة من عمره، وقد أمر الله إبراهيم أن يختن ولده إسماعيل وكل من عنده من العبيد وغيرهم فختنهم وذلك بعد مضي تسعة وتسعين سنة من عمره، وعلى هذا فيكون عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة.
ولهذا قال بعض العلماء: إن الصحيح من أقوال العلماء أن الختان واجب على الرجال، وقد اختتن إبراهيم -عليه السلام- قبل ذلك وهو ابن ثمانين سنة، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اختتن إبراهيم بعد ثمانين سنة واختتن بالقدوم[اسم موضع أو اسم للآلة])[البخاري].
غيرة سارة من هاجر بعد ولادة إسماعيل
لما ولدت هاجر إسماعيل غارت سارة منها فطلبت من زوجها إبراهيم أن يغيب وجهها عنها، فأمره الله بأن يذهب بها هي ووليدها ويتركهما عند البيت الحرام.
فلما ذهب إبراهيم بهاجر إلى موضع البيت الحرام بمكة كان إسماعيل رضيعا، فلما تركهما وولى ظهره عنهما قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا هاهنا وليس معنا ما يكفينا؟ فلم يجبها فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: فإذا لا يضيعنا.
فلما كان إبراهيم –عليه السلام- عند موضع يقال له الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا ربه فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)
يرجع نبي الله إبراهيم ويترك هاجر ورضيعها في هذا الموضع الذي لا زرع فيه ولا ماء ولا أثر لإنسان؛ ليختبر بذلك إيمانه، وإيمان هاجر.
معاناة هاجر ووليدها إسماعيل
تبدأ رحلة من المعاناة التي نتعلم منها كيف يكون الإيمان بالله، حيث تفقد أم إسماعيل الماء، ويتلوى الرضيع من شدة العطش، وتقوم بالأخذ بالأسباب لتبحث عن الماء فتصعد فوق جبل الصفا؛ لعلها تجد ماء أو أثرا لأحد من الناس، فلم تجد ثم سعت حتى ارتقت فوق جبل المروة تنظر لعلها تجد ماء فلم تجد،
فعلت ذلك سبع مرات حتى أرسل الله الملك فضرب الأرض فانفجرت الأرض بالماء فجعلت الطيور تحلق فوق هذا المكان، ولما رأى الناس الطيور تنزل في هذا المكان أتوا إليه وعاشوا مع أم إسماعيل، وشب إسماعيل فيهم وتزوج منهم وماتت أم إسماعيل.
بلوغ إسماعيل عليه السلام
لما شب إسماعيل وصار يسعى في مصالحه، رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده، ورؤيا الأنبياء وحي من الله كما روي عن ابن عباس؛ لأنه لا تسلط للشيطان عليهم، وهذا اختبار من الله لخليله إبراهيم حيث أمره بذبح ولده الذي جاءه على كبر وقد طعن في السن.
وقد ابتلاه قبل ذلك بأن يسكنه هو وأمه في بلاد فقر وواد ليس به شيء، فامتثل لأمر ربه بذبح ولده بكره ووحيده الذي ليس له غيره، وعرض هذا الأمر على ولده فبادر الغلام بالاستجابة، فلما امتثل ألقاه على وجهه حتى لا يشاهد وجهه وهو يذبحه، وليكون أهون عليه، فنودي من الله بأنه قد حصل المقصود من اختبارك وفدى الله إسماعيل بكبش أبيض أقرن.
قال الله: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).
فبعد أن تكلم الله على أمر هذا الذبيح وكيف استجاب لأمر والده ذكر القرآن بعد ذلك البشارة بإسحاق وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الكلام السابق كان على إسماعيل، فالذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق، لأن الله لما بشرهم بإسحاق إنما بشرهم به وبولده من بعده وهو يعقوب –عليهم السلام أجمعين-، قال الله: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ).
زواج نبي الله إسماعيل
تزوج إسماعيل من قبيلة جرهم وماتت هاجر بعد ذلك، وكان نبي الله إبراهيم يأتي إلى موضع البيت الحرام من الحين للآخر ليطمئن على ولده.
قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: (… وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشر، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ألحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى.
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه قالت: خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم قالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك في اللحم والماء. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه). قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي -عليه السلام- ومريه يثبت عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك…)[البخاري].
بناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام
أمر الله نبيه إبراهيم أن يذهب عند البيت الحرام ليبني هو وإسماعيل بيت الله في هذا الموضع فرفعا قواعد البيت وهما يطلبان من الله أن يتقبل منهما.
قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: (…ثم جاء بعد ذلك [أي إبراهيم] وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد ثم قال: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمر ربك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.
قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتا ها هنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البخاري].
فمقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه قائما لما ارتفع البناء عن قامته، فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه لما تعالى البناء، وكان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر فأخره عن البيت قليلا؛ لئلا يشغل المصلين والطائفين بالبيت.
وسأل نبي الله إبراهيم ربه أن يبعث فيهم رسولا منهم، وعلى لغتهم لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والأخروية، واستجاب الله دعاءه وبعث فيهم خاتم رسله وأنبيائه وأكمل له من الدين ما لم يؤت أحد من قبله وعم بدعوته أهل الأرض، قال الله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
مجيء الملائكة والبشارة بإسحاق
قبل أن تذهب الملائكة لإهلاك قوم لوط مروا على إبراهيم فظنهم ضيفان فعاملهم معاملة الأضياف، وشوى لهم عجلا سمينا من خيار بقره، فلما قربه إليهم وعرض عليهم لم يأكلوا؛ لأن الملائكة لا يأكلون،
فخاف إبراهيم منهم فأخبروه أنهم جاءوا لتدمير قوم لوط، فاستبشرت عند ذلك سارة غضبا لله عليهم، فلما ضحكت استبشارا بذلك بشروها بإسحاق، فصكت وجهها ففعلت ما يفعل النساء عند التعجب من ضرب الجبهة باليد تعجبا كيف تلد وهي كبيرة وعقيم، وزوجها شيخ كبير، وتعجب إبراهيم وفرح بالبشارة، وكان إبراهيم قد بلغ مائة سنة، وسارة كان سنها تسعون عاما.
قال الله: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)
لما بشرت الملائكة إبراهيم بأنهم قدموا لإهلاك قوم لوط، وهلاك الظالمين إنما هو من البشريات الحسنة التي يفرح المؤمن بها، لكن جادلهم إبراهيم بأن فيهم لوطا وهو من المؤمنين كان يرجوا أن يتوبوا ويقلعوا عن ذنوبهم فأمروه بأن يقلع عن هذا ويتكلم في أمر غيره لأنه قد وجب عذابهم.
قال الله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)
إبراهيم يسأل ربه كيف يحيي الموتى
سأل إبراهيم –عليه السلام- ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فهو بهذا السؤال لا يشك في قدرة الله لكنه أراد أن ينتقل من المعرفة العقلية للرؤية البصرية، فأمره الله بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن قطعا ويضع على رأس كل جبل منها جزءا ثم يدعوها ستأتيه سعيا وقد تكاملت الأجزاء المتناثرة من فوق رؤوس الجبال.
قال الله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
فهذا السؤال من نبي الله إبراهيم لم يكن شكا في قدرة الله ولكنه أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ينفي الشك عن إبراهيم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)[البخاري]
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا
يجادل اليهود والنصارى في نبي الله إبراهيم فكل منهم يدعي أنه على ملته، فنفى الله عنه اليهودية والنصرانية؛ لأن قبلهما، وبين أن أولى الناس به من اتبعوا طريقه وسلكوا منهاجه وهم أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-.
قال الله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)
وفاة نبي الله إبراهيم
ماتت سارة زوجة إبراهيم –عليه السلام- قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة، فحزن إبراهيم على موتها، ثم بعد ذلك تزوج إبراهيم قنطورا وولدت له ستة من الأولاد، ثم تزوج بعدها حجون فولدت له خمسة من الأولاد.
ثم مرض إبراهيم -عليه السلام- ومات عن مائة وخمس وسبعين وقيل: مائة وتسعين سنة، بعد حياة طويلة من الدعوة والجهاد في سبيل الله ، ودفن في المغارة التي كانت بحبرون الحيثي عند امرأته سارة التي في مزرعة عفرون الحيثي.
وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، فقبر إبراهيم وقبر إسحاق ولده وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود ببلد حبرون وهو البلد المعروف بالخليل اليوم.