كتاب رياض الصالحين للإمام النووي الجزء الثالث
75- باب العفو والإِعراض عن الجاهلين
قَالَ الله تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] .وقال تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]
وقال تَعَالَى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم} [النور: 22] وقال تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقال تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] والآيات في الباب كثيرةٌ معلومةٌ.
1/643- وعن عائشة رضي اللَّه عنها أَنها قالت للنبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: هَلْ أَتى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: “لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَومِكِ، وكَان أَشدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يوْم العقَبَةِ، إِذْ عرَضتُْ نَفسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ ابنِ عبْدِ كُلال، فلَمْ يُجبنِى إِلى مَا أَردْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَاّ وَأَنا بقرنِ الثَّعالِبِ، فَرفَعْتُ رأْسِي، فَإِذا أَنَا بِسحابَةٍ قَد أَظلَّتني، فنَظَرتُ فَإِذا فِيها جِبريلُ عليه السلام، فنَاداني فَقَالَ:
إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَد سَمِع قَولَ قومِك لَكَ، وَما رَدُّوا عَلَيكَ، وَقد بعثَ إِلَيك ملَكَ الجبالِ لِتأْمُرهُ بمَا شِئْتَ فِيهم فَنَادَانِي ملَكُ الجِبَالِ، فَسلَّمَ عَليَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّه قَد سمعَ قَولَ قَومِكَ لَكَ، وأَنَا مَلَكُ الجِبالِ، وقَدْ بَعَثَني رَبِّي إِلَيْكَ لِتأْمُرَني بِأَمْرِكَ، فَمَا شئتَ: إِنْ شئْتَ: أَطْبَقْتُ عَلَيهمُ الأَخْشَبَيْن”فقال النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:”بلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّه مِنْ أَصْلابِهِم منْ يعْبُدُ اللَّه وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً “متفقٌ عَلَيْهِ.
“الأَخْشبان”: الجَبَلان المُحِيطَان بمكَّة.. والأَخْشَبُ: هُوَ الجبل الغليظ.
2/644- وعنها قالت: مَا ضرَبَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم شَيْئاً قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرأَةً وَلَا خادِماً، إِلَاّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَمَا نِيل منْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنتَقِم مِنْ صاحِبِهِ إِلَاّ أَنْ يُنتَهَكَ شَيء مِن مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَيَنْتَقِمَ للَّهِ تَعَالَى. رواه مسلم.
3/645- وعن أَنس رضي اللَّه عنه قَالَ: كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَعَلَيْهِ بُردٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ الحَاشِيةِ، فأَدركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجبذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَة شَديدَةً، فَنظرتُ إِلَى صَفْحَةِ عاتِقِ النَّبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وقَد أَثَّرَت بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ شِدَّةِ جَبذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ. فالتَفَتَ إِلَيْه، فضحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ بعَطَاءٍ. متفقٌ عليه.
4/646- وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قَالَ: كأَنِّي أَنظُرُ إِلَى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يحْكِي نَبِيّاً مِن الأَنبياءِ، صلوَاتُ اللَّهِ وَسلامُه عَلَيهم، ضَرَبَهُ قَومُهُ فَأَدموهُ، وَهُوَ يَمسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجهِهِ، ويقول:”اللَّهُمَّ اغفِرِ لِقَومي فَإِنَّهُم لا يَعْلَمُونَ”متفقٌ عليه.
5/647- وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أَن رَسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “لَيس الشَّديدُ بِالصُّرعَةِ، إِنَّما الشديدُ الَّذِي يَملِكُ نفسهُ عِند الغضبِ” متفقٌ عليه
76- باب احتمال الأذى
قال الله تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقال تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله.
1/648- وعن أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه أَن رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهم وَيَقطَعوني، وَأُحسِنُ إِليهِم ويُسِيئُونَ إليَّ، وأَحلُمُ عَنهم ويجهلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: “لَئِن كُنتَ كَمَا قُلتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفَّهم الملَّ وَلَا يزَالُ معكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى ظَهيرٌ عَلَيهم مَا دُمْتَ عَلى ذَلِكَ” رواه مسلم. وقد سَبَقَ شَرْحُه في”باب صلة الأرحام”
77- باب الغضب إِذَا انتهكت حرمات الشّرع والانتصار لدين الله تعالى
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] وقال تَعَالَى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . وفي الباب حديث عائشة السابق في باب العفو.
1/649- وعن أَبي مسعود عقبة بن عمرو البدريِّ رضي اللَّه عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَقَالَ: إنِّي لأتَأَخَّر عَن صَلاةِ الصُّبْحِ مِن أجْلِ فلانٍ مِما يُطِيل بِنَا، فمَا رَأيْتُ النَّبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم غَضِبَ في موعِظَةٍ قَطُّ أَشدَّ ممَّا غَضِبَ يَومئذٍ، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس: إنَّ مِنكم مُنَفِّرين. فأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَليُوجِز، فإنَّ مِنْ ورائِهِ الكَبيرَ والصَّغيرَ وَذَا الحَاجَةِ” متفقٌ عَلَيهِ.
2/650- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قَالَتْ: قدِمَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مِنْ سفَرٍ، وقَد سَتَرْتُ سَهْوةً لِي بقِرامٍ فَيهِ تَمَاثيلُ، فَلمَّا رآهُ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم هتكَهُ وتَلَوَّنَ وجهُهُ وقال: “يَا عائِشَةُ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً عِند اللَّهِ يَوْمَ القيامةِ الَّذينَ يُضاهُونَ بِخَلقِ اللَّهِ “متفقٌ عَلَيْهِ.
“السَّهْوَةُ”: كالصُّفَّة تكُونُ بَيْنَ يدي البيت … وَ”القِرام”بكسر القاف: سِتر رقيق، وَ”هتكه”: أفسد الصورة التي فيه.
3/651- وعنها أَنَّ قرَيشاً أَهَمَّهُم شَأْنُ المرأةِ المَخزُومِية الَّتي سَرقَت فقالوا: مَنْ يُكلِّمُ فِيهَا رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم؟ فقالوا: مَن يجتَرِيءُ عليهِ إِلَاّ أُسامةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم؟ فَكَلًَّمهُ أُسامةُ، فقالِ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “أَتَشفعُ في حدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟،” ثُمَّ قامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ:”إنَّمَا أهْلَكَ مَنْ قبلكُم أنَّهُم كانُوا إذَا سرقَ فِيهِم الشَّريفُ تَركُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهمِ الضَّعِيفُ أَقامُوا عليهِ الحدَّ، وايْمُ اللَّه، لَوْ أنَّ فاطمَة بِنْتَ محمدٍ سرقَتْ لقَطَعْتُ يَدهَا” متفقٌ عَلَيْهِ.
4/652- وعن أنس رضي اللَّه عنه أَنَّ النَّبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم رَأَى نُخامَةً في القِبلةِ. فشقَّ ذلكَ عَلَيهِ حتَّى رُؤِي في وجهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بيَدِهِ فَقَالَ: “إن أحَدكم إِذَا قَام فِي صَلاتِه فَإنَّهُ يُنَاجِي ربَّه، وإنَّ ربَّهُ بَينَهُ وبَينَ القِبْلَةِ، فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحدُكُم قِبلَ القِبْلَةِ، ولكِن عَنْ يَسَارِهِ أوْ تحْتَ قدَمِهِ”ثُمَّ أخَذَ طرفَ رِدائِهِ فَبصقَ فِيهِ، ثُمَّ ردَّ بَعْضَهُ عَلَى بعْضٍ فَقَالَ:”أَو يَفْعَلُ هكذا” متفقٌ عَلَيْهِ.
والأمرُ بالبُصاقِ عنْ يسَارِهِ أَوْ تحتَ قَدمِهِ هُوَ فِيما إِذَا كانَ في غَيْرِ المَسجِدِ، فَأَمَّا في المسجِدِ فَلا يَبصُقْ إلَاّ في ثوبِهِ