أكد القرآن الكريم أن سنة الابتلاء من سنن الله في هذه الدنيا فلا يستطيع الإنسان الفرار منها، ولا يستطيع أن يتجاوز ألم البلاء إلا بالصبر.
الصبر ضياء
الصبر هو النور الذي يضيء للإنسان إذا استحكمت أمامه الظلمات؛ لذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (والصبر ضياء)[مسلم]، فالصبر صفة محمودة ولا يزال صاحب هذه الصفة مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب طالما التزم بها.
اختبار العباد بالابتلاء
كل واحد من الناس جعل الله له بلاءه، فهذا يبتلى في نفسه، وذاك يبتلى في ماله، وآخر يبتلى في ولده، وليس أمام المرء إلا الرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، ولا يقدر العبد على الرضا بقضاء الله إلا إذا تسلح بسلاح الصبر.
قال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
لقد أشارت الآيات أن من صفات الصابرين أنهم يتذكرون الله فور نزول المصيبة بهم ويسلمون أمرهم له، فالصابرون هم الفائزون بالبشارة العظمى من الله، وهم الذين إذا أصابهم ما يؤلم قلوبهم من موت الأبناء أو الآباء أو الأحباب، أو ما يؤلم أبدانهم من الأمراض، أو ما يؤلم قلوبهم وأبدانهم يقولون: “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
ومعنى قول: “إنا لله وإنا إليه راجعون”. أي نحن مملوكون لله، وتحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أموالنا وأولادنا شيء وإنما كل ما نملكه هبة من الله لنا وهو مِلك لله في الحقيقة.
فإذا ابتلانا بشيء من هذه الأشياء لا نعترض على حكمه وإنما من كمال الإيمان أن نسلم أمرنا لله فإنا مملوكون لله، وإلى الله راجعون يوم المعاد.
ثناء الله على الصابرين
هؤلاء الصابرون على البلاء، عليهم ثناء من الله ورحمة عظيمة، وهؤلاء هم المهتدون الذين عرفوا الحق فاتبعوه، فالمستعين بالصبر هو الذي سلك طريق السعادة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ).
والصبر ليس أمرا سهلا وإنما هو من أشق الأمور التي تحتاج إلى أولي العزم من الناس؛ لذلك رفع الله درجتهم ومكانتهم فأخبر أنهم ممن يحبهم الله، قال الله تعالى: (وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
وأخبر الله أن الصابرين يكونون في معية الله، قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ)، وأنهم ينالون أجرهم على صبرهم بغير حساب فلا يوزن لهم ولا يكال، وإنما يغرف لهم بدون عد ولا حد ولا مقدار، قال الله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).
المعينات على الصبر
من الأمور التي تعين الإنسان على الصبر أن يوقن أن ما يصيبه في هذه الدنيا إنما هو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقه الله.
فما أصاب الإنسان في نفسه أو ماله أو ولده، أو أحبابه إنما هو بقضاء وقدر من الله، فمن رضي بقضاء الله فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وقد جعل الله ذلك للعبد من باب الاختبار لإيمانه.
قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِير لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
فليس هناك شيء يقع في هذا الكون إلا بإذن الله، فليكن قلبك مطمئنا ولا تنزعج بما نزل بك عند المصائب، وإنما كن صابرا محتسبا حتى تنال الأجر من الله على صبرك، قال الله: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
فهداية القلب وراحة البال تكون في الإيمان بقضاء الله وقدره، فليس الابتلاء دائما يكون من أجل العذاب وإنما قد يكون من أجل رفع الدرجات.
قد يكون الخير في الابتلاء
لا يعلم الإنسان علم الغيب لذلك دائما يكون حكمه على ما يعرفه، فقد يرى ما نزل به شرا لكنه في الحقيقة هو الخير له لكنه يجهل ذلك.
فكثيرا ما نجهل حقائق الأُمور، فنكره شيئا مما نزل بنا أو كلفنا به، ونحاول اجتنابه، ولكن نهايته تكون خيرًا لنا، ونحب شيئًا ونحرص عليه، ولكن نهايته تكون شرًا لنا، فليس كل مكروه يكون ضارًا، ولا كل محبوب يكون نافعًا.
قال الله تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)
الحياة دائمة التقلب فاستعد لها
الحياة الدنيا لا تستقيم لأحد على حال واحد، وإنما تتغير وتتقلب بالإنسان، وعلى الإنسان أن يكون دائما على استعداد لتقلباتها وتغيراتها حتى لا يفاجأ بالأحداث التي تنزل به.
قال الله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
فترشدنا الآية إلى أن النصر تارة يكون للمؤمنين إذا تمسكوا بإيمانهم، واستعدوا للقاء عدوهم، وتارة يكون للكافرين اختبارا للمؤمنين، ودرسا لهم ليستفيدوا من هزيمتهم في مستقبلهم، فلو أن الله جعل الهزيمة دائما للكافرين في كل الأوقات والنصر للمؤمنين في كل الأحوال لكان هذا دافعا للناس للدخول في الإيمان ليس رغبة ومحبة للإيمان بالله ورسوله وإنما محبة في النصر والقوة.
وصدق القائل:
لكل شيء إذا ما تمَّ نُقصان * فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتَها دول * فمن سرَّه زمنٌ ساءته أزمان
الصبر هو عدة الحياة
مما يعين الإنسان على مواجهة المحن الصبر، فعلى الصابرين أن ينظروا لأهل البلاء فيتأسون بهم فإن هذا يعين على الصبر ويطفئ نار المصيبة، فالتحلي بالصبر هو العدة التي يواجه بها المسلم شدائد هذه الدنيا.
قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)
فالصبر أمر لا يقوى عليه إلا أولوا العزم من الرجال؛ لذا نصح الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد بسبب ما يصيبه من أذى قومك، كما صبر أولوا العزم من الرسل الذين كانوا قبله صبر رضى وتسليم من غير شكوى ولا جزع، فقد بلغوا الوحي الذي أمرهم الله بتبليغه للناس ولم يصرفهم عن مهمتهم صارف، وأنت أيها الرسول من جملة هؤلاء الرسل.
فإذا كان الله ينصح نبيه بالصبر فالمؤمن مأمور أيضا بالصبر على الشدائد؛ لأن ما أمر الله به الأنبياء هو عين ما أمر به المؤمنين.
وصدق القائل:
اصبر لكل مصيبة وتجلَّدِ * واعلم بأن المرء غير مخلّدِ
وإذا ذكرت محمدًا ومصابَهُ * فاذكر مصابك بالنبي محمّد.
الابتلاء ليس دائما معناه غضب من الله
قد يكون نزول البلاء بالعبد من علامات محبة الله لعبده، يريد بهذا الابتلاء أن يكفر عنه ذنوبه وخطاياه حتى يلقى الله وليس عليه ذنب.
عن مصعب بن سعد عن أبيه -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل: يُبتلى الرجل على حسب دينه،
فإن كان دينه صُلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقةً ابتُلِيَ على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)[الترمذي]
فقد يبتلي الله بعض الناس بالصحة والعلم والسعة ليختبر العبد هل يقوم بشكر تلك النعمة أم لا، وقد يبتلي الله العبد بالشر ليختبر الله إيمانه هل يصبر على البلاء أم لا، قال الله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
فأكثر الناس ابتلاء هم الأنبياء لأنهم لو لم يبتلوا لتوهم الناس فيهم الألوهية؛ ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعا والتجاءً إلى الله تعالى؛ وليكونوا مثالا وقدوة للأمة للصبر على الابتلاء.
الصبر عند الصدمة الأولى
لابد وأن يعلم الإنسان أن حقيقة الصبر تظهر في اللحظة الأولى عند نزول البلاء؛ لذلك يجب على الإنسان أن يحفظ نفسه عن الجزع عند مفاجأة المصيبة وابتداء وقوعها.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بامرأة تبكي عند قبر فقال: (اتّقِ الله واصبري)
فقالت: إليك عنِّي فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي –صلى الله عليه وسلم- فأتت باب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)[البخاري]