الأيمان المغلظة هي التي غلظت بالزمان كيوم عرفة أو المكان كالبيت الحرام أو بحضور جمع من الناس أو بالتكرار.
اليمين المغلظ بالزمان
قد يغلظ اليمين بالزمان لشرف هذا الزمان عند الله كالقسم بعد صلاة العصر وذلك لأنه وقت تتناوب الملائكة النزول فيه على ابن آدم، فهم يتناوبون النزول في صلاتي الفجر والعصر.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)[البخاري]
لذلك عظم الله الحلف في هذا الزمان الذي تتعاقب فيه الملائكة وكان القسم الكاذب في هذا الزمان يترتب عليه الإثم العظيم.
عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم:
رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم،
ورجل منع فضل ماء، فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)[البخاري]
تغليظ اليمين بالمكان
اليمن قد يكون مغلظا بالمكان الذي يتم الحلف فيه، كالحلف في مكة بين الركن الأسود والمقام، أو الحلف في مسجد جامع جهة المحراب،
فتلك الأماكن تعمرها الملائكة ويكونون هم شهود على ما يفعله أهلها، فقد أخبرنا رسول الله أن هذه المساجد هي مهبط ملائكة.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)[مسلم]
فهذه المساجد هي بيوت الله وقد أمرنا الله أن نرفع شأنها وأن نطهرها عن الأنجاس والأرجاس فقال الله:
( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ)
وأما بيت الله الحرام فقد جعل الله مجرد إرادة الذنب فيها ذنب، فقال الله: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ).
فإذا كان هذا شأن المساجد وبيت الله الحرام فإن الأيمان في تلك الأماكن يعتبر نوعا من تغليظ اليمين بالمكان الذي يقال فيه.
تغليظ اليمين بحضور جمع
قد يكون اليمن مغلظا عندما يكون هذا اليمين أمام جمع من الناس، وهذا يكون في اللعان عندما يرمى الرجل زوجته بأنها أتت الفاحشة في هذه الحالة لا يطلب منه أن يأتي بشهود على ما يقول وإنما يطلب منه اللعان، بأن يلاعن زوجته،
فيقول: أشهد بالله أنني من الصداقين يقول ذلك أربع مرات ويوقل في الخامسة أشهد بالله أن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين.
ثم تقول الزوجة أنها تشهد بالله أنه من الكاذبين في قوله مما رماها به وتشهد بذلك أربع شهادات ثم تقول في الخامسة أنها تشهد أن عليها غضب الله إن كان من الصادقين.
ويمين اللعان يعتبر مغلظا أيضا بالتكرار، ودليل هذا اليمين قول الله في سورة النور: (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ * وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ *
وَيَدۡرَؤُاْ عَنۡهَا ٱلۡعَذَابَ أَن تَشۡهَدَ أَرۡبَعَ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ * وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ)
تغليظ اليمين بالتكرار
من الأيمان المغلظة بالتكرار يمين القسامة، وهذا اليمين معناه أن القوم إذا رأوا قتيلا لهم في أرض قوم أو بين قوم ولم يعرفوا قاتله أن يقسموا بالله خمسين يمينا أنهم يستحقون دية قتيلهم، فإن فعلوا ذلك استحقوا دية قتيلهم،
فإن امتنعوا عن القسم يقسم القوم المتهمون بقتل هذا القتيل أنهم لم يقتلوه سقطت مطالبتهم بالدية.
ويبدأ في القسامة بمدعي الدم وتختص به فإن أقامها بشرائطها ثبت بها القتل، وإلا فعلى مدعي الدم خمسون يمينا.
وهذه القسامة فيها حقن لدماء المسلمين لأنه لو لم يمتثل الفريقان لتلك القسامة لكانت النتيجة أن يقتل الفريقان بعضهم بعضا فتكون مقتلة عظيمة من أجل رجل واحد مقتول.
والدليل على تلك القسامة ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر، وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في
دمه قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: (كبر كبر). وهو أحدث القوم، فسكت فتكلما،
فقال: (تحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم). قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: (فتبرئكم يهود بخمسين). فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده.