لقد تدرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في سلم الكمال حتى صار قرآنا يمشي على الأرض فامتزج بالقرآن كامتزاج الدسم بالحليب.
القرآن والرسول من عند الله
قال الله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ)
اختلف المفسرون في المراد بالذكر هنا فمنهم من قال المقصود به القرآن ومنهم من قال جبريل، ومنهم من قال المقصود به هو محمد -صلى الله عليه وسلم-
لكن الأكثر على أن المقصود بالذكر هنا هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لمواظبته على تلاوة القرآن الذي هو أفضل الذكر، وتبليغه للناس وتذكيرهم به.
وعبر عن الإرسال بالذكر لأن الإرسال مسبب عن إنزال الوحي عليه صلى الله عليه وسلم على سبيل المجاز.
وقيل المراد بالذكر هو القرآن والرسول هو محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو منصوب بفعل مقدر تقديره وأرسل رسولا.
الأمر للنبي أمر لأمته
قد نجد كثيرا من الآيات التي تتوجه بالأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- لكن هذا الأمر يشمل أمته معه فهو أمر للأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم إلا ما قام الدليل على أنه خاص برسول الله.
الأمر بطهارة الثياب
خاطب الله نبيه فقال: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، فهذا أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بطهارة الثياب من النجاسات؛ لأن طهارة الثوب شرط من شروط صحة الصلاة، وأمر أيضا بطهارتها خارج الصلاة لأنه قبيح بالمؤمن أن يكون نجس الثياب.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الطهور شطر الإيمان)، فهو نصف الصلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، ويطلق لفظ الإيمان ويراد الصلاة كما في قول الله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)، أي صلاتكم.
النهي عن المن على الناس
قال الله لنبيه: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)، وهذه الآية لها أكثر من معنى وكلها معاني يحتملها لفظ القرآن، فمن معانيها:
الأول: لا تمتن على من تعطيه شيئا لأن هذا الفعل من أخلاق الصغار كفرعون الذي قال لموسى -عليه السلام-: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ).
وكان رد نبي الله موسى عليه أن قال له: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
أما كبار النفوس من الناس إذا جحد الناس فضلهم فإنهم لا يتأثرون لأنهم لم يفعلوا ليتلقوا المدح والثناء منهم وإنما غايتهم أن يكون فعلهم في محل القبول من الله.
الثاني: لا تعط أحدا عطية وأنت تريد أن تأخذ ممن تعطيه أكثر مما أعطيته، فكأنك تعطيه لتأخذ منه أكثر، فكأنك تقوم باستثمار مالك وليس الأمر له علاقة بالله.
الثالث: لا تمنن بعملك على ربك فتستكثر ما تفعله.
الرابع: لا ترى ما تعطيه لغيرك كثيرا، فإن الكبار من الناس يعطيك الكثير وهو يحتقره ويراه قليلا، ورسول الله إمام المعطين فكان يعي عطاء من لا يخشى الفاقة.
فهذه المعاني كلها منهي عنها فنهى الله الأمة في شخص نبيها -صلى الله عليه وسلم-.
الصبر على الدعوة
قال الله لنبيه: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)، لأجل ربك وطلبا لمرضاته تجمل بالصبر على أذى هؤلاء المشركين وغيرهم فإن فضائل الصبر كثيرة لا تحصى فإن الله جعل أجرهم بغير حساب، فقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
إن هذه الدعوة التي ستلقى عليك أمر ثقيل يحتاج للصبر عليها قال الله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).
اصبر يا محمد على أذى قومك وأهلك فإنهم لن يتوانوا عن إنزال الإيذاء بك، فقال الله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا).
اصبر يا محمد وتذكر نبي الله داود واجعله قدوة لك في الصبر؛ لأنه ملك نبي وقد جمع بين أمرين ثقيلين:
الأول: التبيليغ عن الله لشعب كانت معجزة نبيه هي العصا وتلك إشارة إلى إنهم قوم لا تصلحهم إلا العصا.
والثاني: تحمل إقامة العدل في مجتمع لا يعين حاكمه على إقامة العدل فقال الله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
النهي عن مد النظر لمتع الحياة
قال الله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
نهى الله نبيه عن نظر إعجاب بما أعطاه الله للمشركين مما وسعه عليهم من متع الحياة الدنيا حيث أعطاهم الله أزواجا من النعم من كل شيء زوجين.
العفو بالإعراض عن الجاهلين
قال الله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
والمعنى اقبل يا محمد السهل اليسير من أخلاق الناس، فيما اعتادوه من أعمال وعادات لا تخالف ما جئت به، تأليفا لقلوب الجاحدين.
وأمر بالمعروف لك عن طريق الوحي فلا عفو فيما هو مطلوب شرعا، وأعرض عن سفاهة الجاهلين الناشئة عن حقدهم وحسدهم.
وقيل: فاجعل العفو سبيلا لعلاج من أساء إليك فإن هذا العفو يحول العداوة لصداقة مع كريم النفس فقال الله: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)