تعرف على كيفية التدرج في التشريع الإسلامي

التدرج هو أخذ الشيء قليلا فقليلا، وعدم فعله دفعة واحدة، ومعنى التدرج شرعا هو نزول الأحكام على النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا فشيئا، حتى اكتملت الشريعة.

ترسيخ العقيدة ثم الشريعة

لم يبدأ الإسلام مع الناس بالكلام في أمور الحلال والحرام أولا، وإنما بدأ أولا بأمور الاعتقاد؛ لأن القلب إذا امتلأ بالإيمان وجه الجوارح لما يتوافق مع الإيمان.

عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟

قالت: ويحك وما يضرك. قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف.

قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه ‌سورة ‌من ‌المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.

ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا.

لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).

وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السورة.البخاري

التدرج في الميراث

كان من سنن الله تعالى في التشريع أن تدرج في تشريع الميراث، فقد كان أهل الجاهلية يتوارثون بالنسب والسبب.

فأما التوارث بالنسب فكانوا لا يورون الصغار والإناث، وإنما يورثون من يحمل السيف ويدافع عن العشيرة، فأنزل الله قوله:

(‌وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ

وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا).

وأما الميراث بالسبب وهو التوارث بالحلف والمعاهدة أو التبني كأن يقول الرجل للرجل دمي دمك وترثني وأرثك، فتركهم الإسلام برهة من الزمن وذلك في قول الله:

(وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِينَ ‌عَقَدَتۡ ‌أَيۡمَٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ).

ثم نسخ الله هذا الحكم وجعل الميراث محصورا في ذوي القرابة فقط فقال الله: (وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ ‌بَعۡضُهُمۡ ‌أَوۡلَىٰ ‌بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ).

التدرج في القضاء على الرق

لما جاء الإسلام كان النظام الذي يسود العالم هو نظام الرق والاستعباد، بل كان اقتصاد الدول تقوم عليه.

وكان نظاما اقتصاديا عالميا يقره الجميع، فإذا اتخذ الإسلام قراره بتحريم الرق من أول الأمر لأدى ذلك إلى زلزلزة النظام العالمي فكان لابد من التعامل مع الوضع القائم ومحاولة القضاء على هذا الرق والاستعباد بطريق التدرج.

فكان من منهج الإسلام أنه جعل نظام الكفارات بتحرير رقبة، فمن وقع في ذنب وأراد أن يكفر عن هذا الذنب يقوم بتحرير عبد أو أمة.

وجعل تحرير الرقاب من أفضل القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله، فكانت هذه التشريعات من الأسباب التي ساهمت في التحرير العبيد.

قال الله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ

أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ ‌رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ).

التدرج في تحريم الخمر

كانت الخمر تمثل عنصرا رئيسا في حياة العرب فكانت لا تخلوا منه موائدهم، وكان مثلها كمثل الماء.

وكانت لا ينسون التغزل بذكرها في أشعارهم، لذلك لم ينزل الله التحريم مرة واحدة وإنما أخذ الناس شيئا فشيئا، فنزل أولا قول الله:

(وَمِن ثَمَرَٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلۡأَعۡنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ ‌سَكَرٗا ‌وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ).

فذكر الله السكر في مقابلة الرزق الحسن وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الذي يقابل الشيء الحسن هو القبيح.

ثم نزل بعد ذلك قول الله: (يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ ‌كَبِيرٞ ‌وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ).

فبين الله لهم أن الخمر فيها إثم من حيث إذهاب العقل وإضرار الجسد، وفيها منافع بالتجارة والتكسب لكن ما فيها من الإثم أكثر مما فيها من المنافع.

ثم أنزل تحريم الخمر تحريما مؤقتا في وقت الصلاة حتى لا يدخلوا الصلاة وهم فاقدون لعقولهم، فكانوا يتركونها طوال اليوم فإذا صلوا العشاء شربوها، قال الله:(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ ‌سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ).

حتى أنزل الله التحريم القاطع للخمر في كل وقت فقال الله: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ‌ٱلۡخَمۡرُ ‌وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ).

عن أبي ميسرة عن عمر بن الخطاب قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر ‌بيانا ‌شافيا، فنزلت هذه الأية التي في سورة البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)

قال: فدعي عمر فقرئت عليه،

فقال: اللهم بين لنا في الخمر ‌بيانا ‌شافيا، فنزلت الآية التي في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)

فكان منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه،

فقال: اللهم بين لنا في الخمر ‌بيانا ‌شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال: فقال عمر انتهينا، انتهينا.أحمد

وعن أنس -رضي الله عنه-: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا فنادى.

فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، قال: فجرت في ‌سكك ‌المدينة.

قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله: (لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ ‌فِيمَا ‌طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ)البخاري

منهج عمر بن عبد العزيز في التدرج

روي عن عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين أن ابنه عبد الملك وكان الشباب الأتقياء لكن يسيطر عليهم الحماس، قال له يوما: يا أبت، مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق!!

فيريد من أبيه أن يقوم بتطبيق كل الأحكام والقضاء على كل المظالم دفعة احدة ولا يمنعه مانع.

لكن الأب الحكيم الراشد الذي حنكته التجاري قال لابنه: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة!

Exit mobile version