كيف راعي النبي التدرج في الدعوة؟ الجزء الثاني
من الأمور التي راعاها رسول الله في تدرجه في دعوة الناس للإسلام أنه قدم الأقربين أولا في الدعوة ثم وسع الدائرة لتشمل الجميع.
البدء بدعوة الأقربين
بدأ النبي دعوته سرا ودعا الأقربين منه أولا من ذوي قرابته استجابة لأمر الله تعالى حيث قال الله له: (وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ).
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت: (وأنذر عشيرتك الأقربين). صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل يُنَادِي:
يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال:
(أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي). قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فنزلت: (تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب)[البخاري]
وهذا الذي أمر الله به نبيه أمر به عباده المؤمنين حيث أمرنا الله بأن نقي أنفسنا وأهلينا من النار بأن يكون محل عنايتنا ودعوتنا، فقال الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
فقد عرض رسول الله دعوته على أقرب الناس منه من أصدقائه ومن يثق فيهم، كأبي بكر الصديق، وابن عمه علي بن أبي طالب، وزوجته خديجة رضي الله عن الجميع.
الجهر بالدعوة لعموم الناس
لما بدأ رسول الله بذوي قرابته انتقل لدعوة عموم الناس للإسلام لأنه مرسل لجميع الإنس وللجن، فقال الله:
(قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ).
فكان رسول الله يلقى الناس في موسم الحج ويعرض عليهم الإسلام ويقول: ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي.
وقال الله وهو يبين لنا أن دعوة النبي إنما هي دعوة عامة لعموم الناس، فقال الله: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ).
وعن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أعطيت خمسا، لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل،
وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)[البخاري]
العناية بذوي المكانة
اهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوة رؤساء الكفر لأن هؤلاء الرؤساء إذا آمنوا فإنه سيسلم بإسلامهم الكثير ممن وراءهم.
فكان يعطيهم الوقت الكافي ليشرح لهم تعاليم الإسلام رجاء أن يسلموا، لقد كان رسول الله يرجوا إسلام سيد اليمن وهو ثمامة بن أثال، فقد لاطفه وألف قلبه على الإسلام رجاء أن يسلم فيسلم بإسلامه أناس كثيرون، وقد أسلم.
وصلى رسول الله على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، واستغفر له، وكان سر ذلك ما ذكره الخطابي حيث قال:
“إنما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم”.
دعوة أهل الكتاب
كان من أهل الدعوة الذي اعتنى بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل الكتاب، فقد أرسل رسائله إلى قيصر الروم وملك الحبشة والمقوقس بمصر، وكان يناظر اليهود، وقد ورد الكثير من الآيات التي تناظر اليهود والنصارى في عقيدتهم.
قال الله: (قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ).
تهيئة النفوس لسماع الإسلام
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهيئ النفوس بتوفير الأمان والحماية لها لتسمع القرآن ولتقف على الحجج والبراهين.
قال الله: (وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ).
لقد كان من منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ إقرارا أولا من الناس ثم يسوق لهم ما يجب عليهم فعله.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم النحر فقال: (يا أيها الناس أي يوم هذا).
قالوا: يوم حرام، قال: (فأي بلد هذا). قالوا: بلد حرام، قال: (فأي شهر هذا). قالوا: شهر حرام، قال:
(فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا).
فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: (اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت).
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته: (فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض)[البخاري]