من السنن التي سار عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- التدرج في دعوة الناس، فبدأ دعوته باختيار الموضوع الذي يدعوا الناس إليه.
التدرج في اختيار موضوع الدعوة
كان أول المواضيع التي بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بها دعوته هو العقيدة أولا، والعقيدة هي ما ينعقد عليه القلب مما يؤمن به، وهي الأساس الذي ينبني عليه غيره.
فإن كان بناء العقيدة في القلب قويا كان ما يظهر على الجوارح من الإيمان قويا، فلفت أنظار قومه في مكة في أول الأمر إلى عظمة الخالق الذي تظهر عظمته في كل شيء من مخلوقات الكون.
فتلك المخلوقات إنما هي انعكاس لعظمة خالقها، فورد الكثير من الآيات التي تتحدث عن مثل هذه الأمور، فقال الله:
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ).
وبين لهم أن عظمة الخالق تكمن في أنه لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد فقال الله: (لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ).
وقال الله: (قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ * لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ * وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ)
ومما يؤكد سنة القرآن في التدرج في اختيار الموضوع ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- فعن يوسف بن ماهك قال:
إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك.
قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: لعلي أولف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف،
قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء:
لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجارية ألعب:
(بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السورة)البخاري
فبين هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ بتعليم الناس العقيدة أولا ثم أعقب ذلك بالتشريعات وهي الأحكام العملية التي يقوم الإنسان بها بجوراجه.
التدرج باستخدام الوسيلة المناسبة للدعوة
بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوة قومه مستخدما القول أولا بتعليمهم الصواب وإقامة الحجج والبراهين على صدق ما جاء به.
وأيد الله نبيه بالمعجزات التي تؤكد صدق نبيه فيما يقول، كل هذا كان بأسلوب الدعوة بالتي هي أحسن.
فظل في الفترة المكية كلها والتي استمرت ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
فلما انتهت الفترة المكية وانتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة أذن الله لهم بالقتال من أجل حماية الدولة الجديدة، وحماية الدعوة من هجمات الأعداء المتربصين بها في داخل المدينة من يهود ومنافقين،
ومن هجمات الأعداء الذي سيأتون إليها من خارج المدينة، فقال الله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ).
فكانت هذه هي الوسيلة الثانية للدعوة وكان الغرض منها حماية الدعوة من هجمات أعدائها ولتأمن لنفسها طريق الدعوة لتنتشر بين الناس ليدخل فيها من أراد.
ثم جاءت المرحلة التي بعد ذلك لما قويت الدعوة اشتد عودها بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يرسل كتبه الملوك والقياصرة والأكاسرة، فأرسل للنجاشي ملك الحبشة وأرسل لقيصر الروم ولكسرى ملك الفرس.
ثم كانت المرحلة التي بعد ذلك وهي استقبال الوفود والبعوث الذين أتوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- من أماكن بعيدة من أجل أن يسمعوا كلام النبي ويتعرفوا على الإسلام بعد أن أصبح طريق الوصول إلى النبي في المدينة آمنا.
التدرج في أسلوب الدعوة
تدرج أسلوب العرض للدعوة فكان الأسلوب الأول هو العرض على القوم وتوضيح ما خفي عليهم، وإقامة الحجج والبراهين، فكانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
فقال الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
وهذا هو الأسلوب الذي أمر الله به نبيه موسى وهارون بأن يتعاملوا به مع فرعون، فقال الله لهم: (ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ)
فكان من أسلوب العرض الذي استخدمه رسول الله بعد الحجاج وإقامة البراهين أسلوب الترغيب والترهيب، فيرغبهم بالبشارة فإن لم تنفع البشارة يرهبهم بالإنذار.
قال الله: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)
وقال الله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)
لقد كان لهذا الإنذار وقعه الشديد على قلب المشركين فقد روت كتب السيرة أن عتبة بن ربيعة لما جاء مفاوضا للنبي من أجل أن يرجع عن دعوته، قال له رسول الله: أوقد فرغت يا أبا الوليد، قال: نعم.
فقرأ عليه رسول الله من أول سورة فصلت حتى بلغ قول الله: (فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَقُلۡ أَنذَرۡتُكُمۡ صَٰعِقَةٗ مِّثۡلَ صَٰعِقَةِ عَادٖ وَثَمُودَ) فوثب عتبة ووضع يده على فم النبي وقال: ناشدتك الرحم أن تسكت.
ثم كان أسلوب الحماية للمؤمنين ولمن جاء يريد أن يتعرف على الإسلام، وحماية أماكن العبادة التي بنيت لعبادة الله، ولولا أمر الحماية هذا لاستولى المشركون على بيوت الله فمنعوا العبادة في الأرض.
فقال الله: (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
ثم كان أسلوب الإخضاع للجميع تحت سلطان الإسلام الذي يضمن إقامة العدالة بين الناس جميعا، فأخضع جميع أعدائه في المدينة وانتصر على مكائد اليهود، وكسر شوكة المشركين بفتح مكة وقضى على وثنية العرب.
ومع أن الإسلام أخضع أعداءه فإنه لم تثبت حالة واحدة أجبر أحد فيها على الإسلام إنما أخذ الناس حريتهم ليختاروا لأنفسهم ما شاؤا وألا يتجازوا حدودهم.