الكيف في الإسلام مقدم على الكم
الكيف هو جودة الشيء والكم هو كمية الشيء وعدده، فالإسلام يهتم بجودة الأشياء ويقدمها على كميتها وعددها.
الكثرة مذمومة في القرآن
ليس دائما الصواب مع الكثرة العددية، فقد ذم الله الأكثرية في القرآن ووصف أصحابها بأوصاف مذمومة فقال الله في غير موضع:
(وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ)، وقال: (وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ).
وقال: (وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ)، وقال: (وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ)، وقال: (وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا).
ونفي الله للعلم والشكر والإيمان عن الأكثرية يدل على أن القليل هم من يعلمون ويشكرون ويؤمنون.
وهذا يؤكده مدح الله للأقلية فقال: (ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ)، وقال الله: (وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ).
كثرة التناسل
ليست العبرة بكثرة التناسل دون الاهتمام بالكيف والنوعية والتنشئة السليمة والقيام بالمسئولية تجاه هؤلاء الأبناء.
ليس من القيام بالمسئولية أن نكثر من الأبناء ولا نعطيهم حقهم في الحياة والقيام بالواجب الذي أوجبه الله علينا تجاههم.
أما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تناكحوا تناسلو فإني مباه بكم الأمم) فليس المقصود الكثرة العددية التي تخلوا من الجودة النوعية، فما قيمة هذا العدد الذي يشتمل على أمة من الجهلة والفسقة والمفسدين.
هل أمثال هؤلاء يباهي بهم رسول الله الأمم، إن رسول الله يباهي الأمم بالصالحين فمن كان قادرا على إنجاب العدد الكثير مع الحرص على تجويد النوعية حتى تكون كثرة صالحة فيها ونعمت، لكن كثرة عددية فقط دون إعداد فليس هذا هو المراد.
قلة العدد مع النوعية الجيدة
كانت غزوة بدر فيها عدد قليل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام عدو من المشركين يفوقهم ثلاثة أضعاف.
وكانت النتيجة أن انتصر هذا العدد القليل على العدد الكبير، وكان سبب هذا النصر أن هذا العدد القليل قد أحسن النبي -صلى الله عليه وسلم- تربيتهم وإعدادهم، فقاموا بالمسئولية التي وكلت إليهم خير قيام.
وقد امتن الله عليهم بهذا النصر العظيم إذ كان أول لقاء بين المسلمين والمشركين، فقال الله: (وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٞۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ).
أصحاب طالوت
لقد كان أصحاب طالوت الذين خرج بهم ليقاتل أعداء الله عدد كثير لكنه عرضهم لكثير من الامتحانات فكانوا في كل امتحان يسقط منهم عدد غير قليل حتى بقي معه العدد القليل من الجنود فقاتل بهذا العدد القليل ونصره الله على عدوه، وهذا يؤكد لنا أن النوع والكيف يقدم على العدد والكم.
قال الله: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ
فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ
فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ)
الكثرة العددية في غزوة حنين
في غزوة حنين كان عدد الجيش كبير حتى اغتر بعضم بكثرتهم وبعددهم فقالوا لن نهزم اليوم.
وقالوا ذلك اغترارا بكثرتهم العددية، لكن كانت النتيجة أنهم لما طلعت عليهم كمائن هوازن فروا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتركوه لا يلوي أحد على أحد.
لكن رسول الله ثبت وهو يقول: أنا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب، وأمر العباس أن ينادي في الناس حتى اجتمع الناس حوله من جديد.
ولعل سبب انهزامهم أمام كتائب هوازن هو أن هذا العدد الكثير كان فيهم الكثيرون ممن دخلوا الإسلام حديثا في فتح مكة ولم يكن الإسلام قد ترسخ في قلوبهم.
وهنا يتحدث الله عن هؤلاء فيقول: (لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ
ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ)
كثرة كغثاء السيل
ليس دائما الكثرة العددية هي الأفضل لكن الأفضل النوعية والكيفية هي الأفضل.
لقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمته أنهم سيكونون في كثرة من العدد لكنها ستكون كثرة عديمة الفائدة لا قيمة ترجى من ورائها لأنها اهتمت بالعدد ولم تهتم بالكيف.
عن ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها،
فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ، قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن،
فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)[أبو داود]
قال القرطبي في التذكرة: تداعي الأمم اجتماعها ودعاء بعضها بعضًا حتى تصير العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكَلة.
وغثاء السيل هو ما يكون من الوسخ مما يجي فوق السيل.
القيمة ليست بالمظاهر
لا تكمن قيمة الإنسان في ظاهره وإنما القيمة الحقيقية للإنسان تكون في باطنه وما يحمله من قيم، فإن الله قال: (إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ).
أما الظاهر الذي ذكره الله وذمه فهو ظاهر المنافقين الذين كان لهم مظهر جذاب براق خادع لكن لهم باطن سيء فقال الله عنهم:
(وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ).
وقوم ثمود ذكر الله ما أعطاهم من بسطة الجسم لكن عقولهم وقلوبهم لم تكن على مقدار أجسامهم فقال الله:
(وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ).
الضخامة البدنية مع خراب القلوب
تلك الضخامة البدينة والقوة العضلية لا قيمة لها إذا لم يكن للإنسان قلب يعقل به ويدرك به حقائق الأشياء من حوله.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة). وقال: اقرؤوا إن شئتم: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)[البخاري]
ضعف البدن مع تعقل القلب
إذا كان الإنسان يملك بدنا ضعيفا لكن له قلب متعقل يدرك به حقائق الأشياء من حوله فإنه سيكون هو الرابح.
عن ابن مسعود، أنه كان يجتني سواكا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مم تضحكون؟)
قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)[أحمد]