من القواعد الفقهية المقررة عند الفقهاء هو تغير الفتوى بتغير مدركها الذي بنيت عليه، فإذا بنيت الفتوى على عادة معينة ثم تغيرت تلك العادة وجب تغير الفتوى.
الفرق بين الحكم والفتوى
الحكم هو الحكم الشرعي الثابت الذي ورد في كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا الحكم لا يتغير بل هو ثابت.
فالحرام في زمن النبوة يظل حراما إلى قيام الساعة، والحلال في زمن النبوة يظل حلالا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كتحريم الخمر والميسر وغير ذلك من المحرمات فهذه المحرمات لا تحل في أي وقت من الأوقات بتغير عرف أو عادة، قال الله:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ).
أما الفتوى فهي التي ترتبط بعادة معينة وهذه العادة اشتهرت بين الناس في بلدة ما بصورة معينة فيكون لها حكم خاص بها.
فإذا ذهبنا لبلد آخر ووجدنا هذه العادة تتغير فهذا التغير يترتب عليه حكم آخر، فلا يحل لنا أن نأخذ حكم العادة التي في البلد الأول ونفتي به في البلد الثاني.
النص المقدس والرأي الفقهي
مما ينبغي على المسلم معرفته أن يعرف أن هناك فارق كبير بين النص المقدس والرأي الفقهي.
فالنص المقدس هو ما ورد عن الله تعالى في كتابه والنبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته الصحيحة الثابتة، وتلك النصوص واجبة التسليم.
أما الرأي الفقهي فهو اجتهاد إمام من الأئمة في محاولة فهم النص والوصول للحكم المراد، فهذه العملية هي اجتهاد بشري قد يصيب ويخطيء.
فالنص المقدس إنتاج إلهي أو نبوي غير قابل للخطأ، أما الرأي الفقهي فهو إنتاج بشري قابل للصواب والخطأ.
تفاوت درجات النص
النصوص المقدسة ليست كلها على درجة واحدة، فمنها ما هو قطعي الثبوت بمعنى أن كل العلماء قد اتفقوا على ثبوته، ومنها ما هو ظني الثبوت أي أنه ليس جميع العلماء متفق على ثبوته.
وهناك ما هو قطعي الدلالة بأن النص لا يحتمل إلا معنى واحد، وكل الفقهاء لا يخرجون عن هذا المعنى، أو أن يكون ظني الدلالة بأن يكون النص محتملا لأكثر من معنى، أي مما تختلف فيه فهوم العلماء.
الأحكام المبنية على العرف والعادة
من الأحكام الشرعية ما يكون مبناه على العرف والعادة، فمثل هذه الأحكام لا تكون أحكاما دائمة ثابتة وإنما هي أحكام متغيرة بحسب تغير تلك العادات والأعراف.
أمثلة الفتوى في الطلاق
في بعض الأزمنة كانت هناك ألفاظ يقولها صاحبها ولا يفهم منها إلا لفظ الطلاق فكان الفقهاء يحكمون بناء على العرف والعادة بأن من يقول شيئا من هذه الألفاظ يكون قد وقع طلاقه دون أن يسأل عن نيته كقولهم مثلا: حبلك على غاربك، ووهبتك لأهلك، والبرية.
فمثل هذا الحكم لا يجوز لنا أن نحكم به إذا اختلف الزمان واختلف مقصود الناس من هذه الكلمة عند إطلاقها،
في هذه الحالة لا يترتب عليها طلاق وإنما نسأل من نطق بتلك الكلمة عن نيته فإن كان يقصد طلاقا وقع الطلاق وإن يقصد غير ذلك لم يقع الطلاق.
كان أيضا في بعض الأزمنة إذا خير الرجل زوجته فاختارت نفسها يكون هذا طلاقا، لكن عند تغير الزمان وتغير مفهوم الكلمة لا يقع الطلاق باختيار الزوجة نفسها إلا أن يفصح الزوج عن نيته فنحكم بناء على ما في نيته وقصده.
حلف بالطلاق ألا تأكل زوجته لحما
لو حلف الرجل بالطلاق على زوجته ألا تأكل لحما فأكلت الزوجة سمكا، هنا لابد وأن يحكم المفتي على عرف أهل البلدة في استخدامهم لكلمة اللحم.
فبعض الناس في بعض الأماكن إذا أطلقوا كلمة اللحم لا يقصدون بها إلا لحم الطير أو الحيوان ولا يقصدون أبدا بكلمة اللحم السمك، بالرغم من أن كلمة اللحم تطلق على السمك كما في قول الله: (وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ)
فسمى الله السمك لحما طريا، لكن المفتى هنا لا يفتي على المعنى اللغوي للكلمة وإنما يفتى على المعنى الذي يقصده المتكلم، والعرف الذي تستعمل به هذه الكلمة.
وهذا يتطلب من المفتي أن يكون على دراية بعرف أهل البلدة التي يفتي فيها، فيكون الحكم هنا بأن الزوجة لا تطلق لأنها أكلت سمكا وهم لا يدخلونه في مقصودهم عندما يطلقون كلمة اللحم.
تغير الفتوى بناء على تغير حال المستفتي
قد تتغير الفتوى بناء على تغير حال المستفتي الذي أتى سائلا، عن أبي هريرة (أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب)[أبو داود]
فالمفتي هنا ينبغي عليه أن ينظر في مآلات الأمور فهنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راعى مآلات الأمور
ورأى أنه إن أذن للشاب في تقبيل زوجته ربما أدى ذلك به إلى أنه لا يستطيع أن يتمالك شهوته فيقع في المحظور فنهاه عن التقبيل أصلا،
أما الشيخ الكبير فالغالب عليه أنه أضبط لنفسه؛ لأن الشهوة عنده أضعف فأباح له صلى الله عليه وسلم التقبيل.
تغير الفتوى من باب السياسة الشرعية
من القواعد الفقهية عند الفقهاء قولهم: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” وهذا المعنى ينطبق هنا على تغير الفتوى من باب السياسة الشرعية.
كأن يكون هناك أمر من المصلحة فعله، لكن قد يؤدي هذا الفعل لمنكر أشد فيتوقف عن فعل هذا الأمر مراعاة لتلك المفسدة التي ستترتب على فعل هذه المصلحة.
عن عائشة قالت: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الجَدْرِ أمن البيت هو؟ قال: (نعم). قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟
قال: (إن قومك قصرت بهم النفقة). قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: (فعل ذاك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا،
لولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه في الأرض)[البخاري]