النهي عن سب الدهر
المسلم في ظل عقيدته الصحيحة يهنأ بالحياة المريحة، والنفسية المستقرة، وكلما زاد إيمانه زادت سعادته وطمأنينته.
نقص الإيمان علامة الشقاء
كلما نقص إيمان الإنسان أو اختل توحيده، اقترب من البؤس والشقاء، ويكون بؤسه وشقاؤه بقدر نقص إيمانه، فالمؤمن يؤمن بمقادير الله تعالى، ولا تصرفه تقلبات الدهر عن التأدب مع الله عز وجل؛ لأنه سبحانه خالق كل شيء.
أما من انعدم إيمانه أو اختلت عقيدته، فتراه يلقي باللائمة على القدر، ويعزو (ينسب) الحوادث للدهر، مكذبا علم الله تعالى وأمره وخلقه وتدبيره، كما كان المشركون يقولون: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) [الجاثية: 24].
ما المراد بسب الدهر
والدهر: الزمان والوقت، والمراد بسب الدهر نسبة ما يصيب العبد من المكاره التي تنزل به إلى الدهر، وشتمه؛ فكانوا يقولون: أهلكنا الدهر، وأصابتنا قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وبؤسا للدهر، وتبا له ونحو ذلك.
الدليل من الكتاب: قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية: 24].
والدليل من السنة: ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله عز وجل: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)[متفق عليه].
وفي رواية: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ )[رواه مسلم].
في هذا الحديث القدسي يقول رب العزة سبحانه: يؤذيني ابن آدم، بأن ينسب إليه سبحانه ما لا يليق بجلاله، ويسب الدهر، أي: يشتم الزمان، فيقول عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة به؛ يا خيبة الدهر.
ثم يقول الحق سبحانه: وأنا الدهر، أي: خالقه، وبيدي الأمر الذي ينسبونه إلى الدهر، وأقلب الليل والنهار، فما يجري فيهما من خير وشر بإرادة الله وتدبيره، وبعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
سب الدهر من أمور الجاهلية الأولى
لما جاء الإسلام نهى عن كل العادات السيئة التي كانت في الجاهلية، وكانت العرب في جاهليتها تذم الدهر، أي: سبه عند النوازل؛ فكانوا إذا أصابهم شدة أو بلاء أو ملامة قالوا:
أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا: يا خيبة الدهر؛ فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله.
فإذا أضافوا ما نالهم من الشدائد إلى الدهر فإنما سبوا الله عز وجل؛ لأن الله هو الفاعل لذلك حقيقة؛ فنهى الله عن سب الدهر بهذا الاعتبار، ولذلك قال الله عنهم مبينا جهلهم، (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية: 24].
سب الدهر من جاهلية العصر
وقد يشابه بعض المسلمين المشركين في سبهم للدهر لا لاعتقادهم أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل؛ لكنه يسب الدهر لهذا الأمر المكروه عنده، فهذا محرم ولا يصل إلى درجة الشرك؛ لأنه يعتقد أن الله هو الفاعل، وإنما هو محرم لما يقتضيه سبه للدهر من مسبة الله عز وجل ولم يكن ذلك كفرا لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة.
وهذا للأسف يحصل عند بعض المسلمين، فيسب اليوم الذي حصلت فيه المصيبة الفلانية، أو الساعة التي عرف فيها فلانا، أو الشهر أو السنة أو الوقت الذي حصل فيه كذا وكذا، فينبغي أن يعلم أن ما يحصل للعبد هو بتقدير الله – تعالى – وأمره وخلقه، وليس للدهر ولا لغيره تصرف في ذلك.
فعلى الإنسان ألا يلقي التبعة واللوم على الدهر والزمان الذي لا يملك من أمره شيئا، ولله در الشافعي حيث قال:
نعيب زماننا والعيب فينا … وما لزماننا عيب سوانا
وقد نهجو الزمان بغير جرم … ولو نطق الزمان بنا هجانا
مما يدخل في باب سب الدهر
إن مما يدخل في باب سب الدهر: تعليق الحوادث الكونية على أسباب بحتة، والتغافـل عن تقدير الله تعالى لها، وأنه خلق الأسباب ومسبباتها، حيث يكثر عند دارسي ما يسمى بالعلوم التجريبية نسبة بعض الحوادث للطبيعة فيقال:
هذا قانون الطبيعة، وهذا تدبيرها وخلقها، وهكذا تريد الطبيعة، ونحو ذلك مما هو من أفكار الدهرية والملاحدة، انتقل إلى المسلمين عن طريق ترجمة كتبهم، ودراسة نظرياتهم، وقد يغفـل بعض الدارسين عن المحاذير الشرعـية في ذلك، فيختل توحيدهم وإيمانهم وهم لا يدرون.
كذلك من الإلحاد والزندقة بعض النظريات، التي تجعل الخلق للطبيعة؛ كنظرية النشوء والارتقاء والتطور، التي تتضمن إنكار خلق الله تعالى للإنسان، وتصرح بتكذيب القرآن في بيان أصل خلق الإنسان.
لا يقابل الإحسان بسب الدهر
الدهر ليس بيده شيء، ليل ونهار مدبران مسيران، فليس في يدهما عطاء ولا منع، بل هما آيتان من آيات الله سخرهما لعباده، قال تعالى:
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 37-40]،
فهذه الآيات من أرض وسماء ونجوم، وليل ونهار، كل ذلك من تسخير الله، عطاء وإحسانا منه إلى عباده، فلا يجوز مقابلة هذا الإحسان وهذا الخير بالسب للدهر، ولكن تقول: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. [موقع الشيخ ابن باز، شرح كتاب التوحيد].
هل الدهر اسم من أسماء الله تعالى
والدهر ليس أسما من أسماء الله ولو كان كذلك لكان الذين قالوا: “وما يهلكنا إلا الدهر” مصيبين، فالدهر ليس اسما من أسمائه تعالى، ويدل لذلك ثلاثة أشياء:
- أن سياق الحديث يبين أن المقصود أن الله تعالى هو المتصرف بالدهر نفسه، كما في قوله (بيدي الأمر؛ أقلب الليل والنهار)، ومعلوم أن الليل والنهار هو الزمن وهو الدهر نفسه، فالله تعالى هو الذي يقلبهما.
- أن الزمن مخلوق كالمكان، والله هو الذي خلقه، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [إبراهيم: 33]، فالإخبار عن التسخير دليل على كونه مخلوقا من جملة المخلوقات.
- أسماء الله تعالى كلها حسنى، وهي متضمنة لصفات الكمال، أما الدهر فهو اسم ليس فيه مدلول للحسن كسائر أسماء الله تعالى.
مفاسد سب الدهر
ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ثلاث مفاسد عظيمة لسب الدهر:
أحدها: سبه من ليس أهلا للسب، فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله منقاد لأمره، متذلل لتسخيره
الثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع.
لثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، وفي حقيقة الأمر: فرب الدهر هو المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبتهم للدهر مسبة لله عز وجل
ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما: إما مسبة الله أو الشرك به، فإنه إن اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك، وهو يسب من فعله فهو يسب الله تعالى. [زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 422)].
ما لا يعد من سب الدهر
ليس من سب الدهر أن يخبر عما وقع فيه من غير اعتراض أو تذمر أو لوم، كالإخبار عن البرد في ذلك اليوم، أو شدة الحر فيه،
أو ما جرى فيه من حوادث ومشكلات من غير أن يتضمن إخباره لوما أو تذمرا ونظيره ما حكاه الله تعالى عن لوط -عليه السلام- من أنه قال: (هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود: 77]،
وكذلك قوله تعالى حكاية عن يوسف -عليه السلام- من أنه قال: ( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) [يوسف: 48]،
فوصف ذلك اليوم بأنه عصيب، ووصف السنين بأنها شدائد، هو مجرد إخبار لا اعتراض فيه ولا لوم؛ لذلك لم يكن محذورا، وما يجري مجراه فليس بمحذور.