عناية المحدثين بالسنة النبوية سندا ومتنا

اهتم المحدثون بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- من ناحية الإسناد والمتن صيانة للسنة من التحريف والتبديل.

صيانة السنة من التحريف

اهتم المحدثون رحمهم الله بالبيان والتوضيح لما وضعه الكذابون من الأحاديث على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال محمد بن علي الشوكاني:

“وقد أكثر العلماء رحمهم الله من البيان للأحاديث الموضوعة، وهتكوا أستار الكذابين، ونفوا عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‌انتحال ‌المبطلين، وتحريف الغالين، وافتراء المفترين، وزور المزورين.

وهم رحمهم الله تعالى قسمان: قسم: جعلوا مصنفاتهم مختصة بالرجال الكذابين، والضعفاء، وما هو أعمّ من ذلك.

وبيّنوا في تراجمهم ما رووه من موضوع، أو ضعيف، كمصنّف ابن حبان، والعقيلي، والأزدي في الضعفاء، وأفراد الدَّارَقُطْنِيّ، وتاريخ الخطيب والحاكم، وكامل ابن عدي، وميزان الذهبي.

وقسم: جعلوا مصنفاتهم مختصة بالأحاديث الموضوعة، كموضوعات ابن الجوزي، والصّغاني، والجوزقاني، والقزويني.

اهتمام المحدثين بالسند

اهتم المحدثون بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- سندا لأن سلسلة الإسناد هي التي نتبين منها صحة المتن من ضعفه، فكان لا يقبلون حديثا إلا بإسناد احتياطا وصيانة لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فروى الإمام مسلم وغيره عن محمد ابن سيرين أنه قَالَ: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: ‌سمّوا ‌لنا ‌رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم).

لقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يقبلون الحديث إلا إذا عرفوا رواته حتى لا يتقول كل من شاء على رسول الله.

عن مجاهد أن بشيرا العدوي أتى إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كذا، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كذا.

فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: (يا ابن عباس، ‌مالي ‌لا ‌أراك ‌تسمع ‌لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع)

فقال ابن عباس: (إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف).

ثم أخذ التابعون في المطالبة بالإسناد حين فشا الكذب يقول أبو العالية: «كنا نسمع الحديث من الصحابة فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم».

ويقول ابن المبارك: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء». ويقول ابن المبارك أيضا: «بيننا وبين القوم القوائم» يعني الإسناد

علوم الإسناد

الإسناد مشتمل على الكثير من العلوم التي لابد منها للوقوف على صحة الحديث من ضعفه وهذه العلوم والقواعد التي وضعها المحدثون لم يسبقوا إلى مثلها وليس هناك علم من العلوم قد تحرى الدقة في نقل الأقوال كعلم الحديث؛ لأنهم ينقلون كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فمن علوم الإسناد كتب الرجال والتي اشتملت على الجرح والتعديل، ومعرفة علل الحديث وعلوم مصطلح الحديث وغير ذلك مما يعين على دراسة الأسانيد ومعرفة صحيحها من سقيمها.

عناية المحدثين بالمتن

لم تقتصر عناية المحدثين على السند وحده وإنما اشتملت العناية بمتن الحديث فكان من أحكامهم على المتن بأنه شاذ ومنكر وأنه موضوع.

ووضعوا قواعد يعرف بها ضعف المتن من صحته، وهي أن يكون مخالفا للمعقول، وأن يكون لفظ الحديث ركيكا لا يمكن أن يصدر مثله من رسول الله فهو أفصح الفصحاء، وأن يكون مخالفا لصريح القرآن والسنة، واشتمال الحديث على مجازفات لا يصدر مثلها من الحكيم.

قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: «إِنَّ للحديث لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ النَّهَارِ نَعْرِفُهُ، وَإِنَّ لَهُ ظُلْمَةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ نُنْكِرُهُ»

وقال الإمام ابن الجوزي: «مَا أَحْسَنَ قَوْلَ القَائِلِ: كُلُّ حَدِيثٍ رَأَيْتَهُ تُخَالِفُهُ العُقُولُ وَتُنَاقِضُهُ الأُصُولُ وَتُبَايِنُهُ النُقُولُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ»

أمثلة على نقد المتون

هناك الكثير من الأمثلة التي تبين أن المحدثين -رضوان الله عليهم- كانوا يهتمون بنقد متون الأحاديث كما يهتمون بنقد الأسانيد.

قال ابن الجوزي في الحديث الموضوع: «شَكَوْتُ إِلَى جِبْرِيلَ رَمَدَ عَيْنِي فَقَالَ لِي: أَدِمْ النَّظَرَ إِلَى المُصْحَفِ». قال ابن الجوزي: وأين كان في العهد النبوي مصحف حتى ينظر فيه؟.

وقال الحافظ بن حجر في تزييف الحديث الموضوع «أَتَانِي جِبْرِيلُ بِسَفَرْجَلَةٍ، فَأَكَلْتُهَا لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَعَلِقَتْ خَدِيجَةُ بِفَاطِمَةَ … ». قال الحافظ: الوضع عليه ظاهر، فإنَّ فاطمة ولدت قبل الإسراء بالإجماع.

عدم توسع في نقد المتون

لم يتوسع المحدثون في نقد المتون كما توسعوا في نقد الأسانيد، وكان لهم نظرتهم الثاقبة في هذا الأمر، فإن ما يقوله النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو وحي فقد يكون فوق مدارك العقول.

لكن مع تقدم الزمان يتبين لهم صحة هذا القول وإمكانه، فكان الشيء الأهم بالنسبة لهم هو توثيق صحة السند.

فهناك أحاديث ربما لا تكون من قبيل الحقيقة بل من قبيل المجاز كحديث ذهاب الشمس بعد غروبها وسجودها تحت العرش.

وقد يكون الحديث في الزمان المتقدم لم يصل العلماء إلى شيء من التقدم العلمي الذي يبين حقيقة الأمر، وقد يكون عن الغيبيات وتلك الغيبات لا تقاس بالمشاهدات.

Exit mobile version