حث الشرع على المحبة بين المسلمين جميعا؛ لما فيها من التواد والتراحم وبناء المجتمع على التآخي والترابط، والمعاني الطيبة،
معنى الحب في الله
الحب في الله هو أن تحب من أجل الله جل وعلا؛ فتحب المسلم لتقواه وإيمانه، وتبغض أهل الشرور والمعاصي، وخير الحب ما كان في الله ولله، فالذي ينبغي للمسلم هو أن يجعل حبه لله، وفي الله، فيحب المؤمنين، ويبغض العاصين.
أولا: إني أحبك في الله
“إني أحبك في الله”، عبارة تخرج من القلب إلى القلب، فيكون لها مفعول السحر، فمن قال لك “إني أحبك في الله”، فالثابت في السنة، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم، أن تقول له: “أحبك الذي أحببتني له”.
روى أبو داود في سننه عن أنس بن مالك، -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعْلَمْتَهُ؟). قَالَ: لَا. قَالَ: (أَعْلِمْهُ). قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ.[رواه أبو داود وحسنه الألباني].
ثانيا: أنت مع من أحببت
إن المرء بمحبته لأهل الخير لصلاحهم واستقامتهم يلحق بهم، ويصل إلى مراتبهم، وإن لم يكن عمله مثل عملهم.
قال أنس -رضي الله عنه-: «بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ، وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» [رواه البخاري].
ثالثا: ثمرات الحب في الله
1 – محبة الله تعالى للمتحابين فيه
قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ)[رواه أحمد وهو حديث صحيح].
فمحبة الله حقت للذين قلوبهم مجتمعة على المحبة في إجلال الله وتعظيمه، فلا يحبون إلا ما يحبه الله،
ويبغضون ما يبغضه الله، وحقت محبة الله أيضا للذين اجتمعوا على ذكره وعبادته، والذين يزور بعضهم بعضا لصلة رحم ونحوه زيارة خالصة لوجه الله، وكذلك حقت المحبة للذين أنفقوا أموالهم فيما أمر الله -عز وجل-.
2- أحبهما إلى الله أشدّهما حبا لصاحبه
فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه-، قال: (مَا مِنْ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلا كَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ)[رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وصححه الألباني].
3- الاستظلال في ظلّ عرش الرحمن
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي» [رواه مسلم].
4- تذوق حلاوة الإيمان
بالحب في الله يستشعر المؤمن طعم الإيمان، روي عن أنس -رضي الله عنه-، أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)[متفق عليه].
فلا يجد أحد حلاوة الإيمان إلا بهذه الخصال الثلاث:
أحدها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما، وهذا من أصول الإيمان التي لا يكون العبد مؤمنا بدونها.
الثاني: أن يحب العبد لا يحبه إلا لله، ففي الحديث الحث على التحاب في الله، لا من أجل تبادل منافع وتحصيل أغراض دنيوية، وإنما يجمع الحب في الله بين المتحابين فيه، ويلزم من تلك المحبة نفع المسلم لأخيه المسلم وترك إيذائه، فلا يظلمه، وأن يقضي حاجته سواء كانت مادية أو معنوية، وتفريج كربته.
الثالث: أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر.
5- استكمال الإيمان
عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ)[رواه أبو داود، وصححه الألباني].
6- دخول الجنة
والحب لله سبب في دخول الجنة، جاء في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا)[رواه الترمذي].
7- دوام المحبة والمودة في الدنيا والآخرة
فالمتحابون في الله تدوم صحبتهم، وتبقى مودتهم، في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67].
«الأصدقاء على معاصي الله في الدنيا يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، لكن الذين تصادقوا على تقوى الله، فإن صداقتهم دائمة في الدنيا والآخرة» [التفسير الميسر (1/ 494)]
رابعا: مقتضيات الحب في الله
1- النصر والتأييد
فمن حقوق الحب في الله: النصر والتأييد والمؤازرة كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه)[متفق عليه]،
هذا الحديث يجمع جماع آداب الخير فلا يتحقق الإيمان الكامل للمسلم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الطاعات وأنواع الخيرات في الدين والدنيا، ويكره له ما يكره لنفسه، وهذا لا يتأتى إلا بسلامة الصدر من الغل والحسد.
2- التواصي بالحق والصبر
التواصي بالحق والصبر، يقول تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[سورة العصر].
وكذا أداء النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبيين الطريق له، وإعانته على الخير ودفعه إليه، يقول الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)[التوبة: 71].
3- أداء حق المسلم لأخيه
القيام بالأمور التي تدعو إلى التواد والتراحم وزيادة الصلة، وأداء الحقوق، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ. قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)[رواه مسلم].
4- الدلالة على الخير والإعانة على الطاعة
من حقوق المسلم على المسلم: أن يدله على الخير، ويعينه على الطاعة، ويحذره من المعاصي والمنكرات، ويرده عن الظلم والعدوان، قال -صلى الله عليه وسلم-:
(وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ)[رواه مسلم].
5- التهادي
تقديم الهدية والحرص على أن تكون مفيدة ونافعة، مثل إهدائه الكتب الإسلامية، أو الشرائط النافعة، أو سواك أو غيره، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَقْبَلُ الهديَّةَ ويُثِيبُ عليها) [رواه البخاري].
فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر الخلق تواضعا، ومن ذلك أنه كان يقبل الهدية من أصحابه -رضي الله عنهم-، ولا يرد أي هدية تقدم إليه مهما كانت يسيرة، وهذا من حسن خلقه؛ وكان صلى الله عليه وسلم إذا قبل الهدية يكافئ من أعطاه بهدية مثلها، أو خيرا منها.
خامسا: نماذج مشرقة للمحبة الصادقة
1- النبي صلى الله عليه وسلم والصدّيق
هي محبة صادقة في الله -عز وجل-، ولله -عز وجل-، ومن المواقف التي تدل على صدق المودة والمحبة، واختصاص المحب لما يدور في قلب أخيه الذي أحبه في الله -عز وجل-:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس وقال: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ)،
فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ:
(يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ) [رواه البخاري].
2- المهاجرون والأنصار
ما حدث بينهم من أخوة صادقة، ومدح الله عزّ وجلّ الأنصار بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
وهذا نموذج من المؤاخاة فريد في تاريخ الإنسانية، بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع، -رضي الله عنهما-:
قال سعد بن الربيع الأنصاري لعبد الرحمن بن عوف المهاجري -رضي الله عنهما-: (إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا. قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، أَيْنَ سُوقُكُمْ؟ فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ) [رواه البخاري].
ولكن عبد الرحمن بن عوف لما عرض عليه هذا العرض المُغري لم يكن بالذي يوافق عليه، ولذلك قال عبد الرحمن لسعد:
بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّني على السوق، وهو رجل يُحسِن التجارة، فباع واشترى، ونمَتْ ثروته بعد ذلك، وأصبح من كبار أغنياء المسلمين.