مراعاة المشاعر وجبر الخواطر عبادة منسية
مراعاة المشاعر والأحاسيس، وجبر الخواطر، وتطييب النفوس المنكسرة، خلق نبيل، وأدب إسلامي رفيع، لا يتخلق به إلا أصحاب النفوس الطيبة الراقية، التي ترى سعادتها في اسعاد الآخرين، وادخال الفرح والسرورعليهم، ورفع معنوياتهم بكلمات حانية، تضمد جراحات قلوبهم.
تعريف جبر الخواطر
والخاطر: هو الميل، والمودة، والوداد، والرغبة، ويقال تأخذ بخاطره، أي هدأ ثأرته، وجبر الخاطر، سلَّاه وفرَّج الغم عنه، وطيَّب قلبه بما يسره وما يُبعد الهم عنه، وأخذ على خاطره منه، أي العتب عليه.
جبر الخواطر عبادة
ومراعاة المشاعر وجبر الخواطر، عبادة جليلة، تناساها وغفل عنها الكثير من الناس، يقول الإمام سفيان الثوري:
(ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلي ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم)،
بل إن بعض العلماء ذكروه في أبواب الاعتقاد، كما قال إسماعيل بن محمد الأصبهاني ــ رحمه الله ــ :
(ومن مذهب أهل السنة مواساة الضعفاء، والشفقة على خلق الله).
جبر الخواطر من أوصاف الله تعالى
وكلمة الجبر مأخوذة من اسم من أسماء الله الحسنى، وهو الجبار، قال الله تعالى (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ )[الحشر: 23]،
فهو سُبْحَانَهُ (الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ).
فالمسلم يدعو ربه بهذا الاسم لجبر كسر قلبه، وتفريج همه، فهذا الاسم بمعناه الرائع يطمئن القلب ويريح النفس، يقول ابن القيم رحمه الله:
كذلك الجبار من أوصافه والجبر في أوصافه نوعان
جبر الضعيف وكل قلب قد غدا ذا كسرة فالجبر منه دان
والثاني جبر القهر بالعز الذي لا ينبغي لسواه من إنسان
مراعاة المشاعر في القرآن الكريم
ومما جاء في القرآن الكريم حثًا على مراعاة مشاعر الآخرين، وجبرا لخواطرهم، ما جاء في قصة -يوسف عليه السلام- عندما رماه إخوته في البئر فأوحى الله إليه جبرا لخاطره وتثبيتا لقلبه لأنه ظلم من إخوته،
والمظلوم يحتاج إلى جبر خاطر، فأعلمه الله تعالى أنه سيلتقي بهم، ويخبرهم بفعلتهم فقال تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [يوسف: 15].
ولما أمر الله تعالى أم موسى -عليه السلام- بإلقائه في اليم، وهذا أمر غريب، وعصيب، ومؤلم، على قلب الأم، جبر الله تعالى خاطرها، وأخبرها أنه سيرده عليها، وأنه سيجعله من صفوة خلقه المرسلين،
قال الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7].
ومن آيات جبر الخواطر في القرآن الكريم، ما جبر به الله تعالى خاطر نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عندما أخرجه قومه من مكة أحب البلاد إليه، فاحتاج في هذا الموقف الصعب وهذا الفراق الأليم إلى شيء من المواساة.
فأخبره الله تعالى أنه سيرده إليها مرة أخرى فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) [القصص: 85].
وقد عاتب الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- لما عبس في وجه الأعمى، رغم أن ذلك الفعل كان حرصًا من النبي -صلى الله عليه وسلم- على نشر الدين بصورة أكبر، حيث كان يخاطب زعماء قريش وهو يعلم أن بإسلامهم سيُسلم الكثير من الناس، لكن للأعمى حق في أن يجبر خاطره، ويلتفت إليه، ويجاب عن سؤاله.
قال سبحانه: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) [عبس: 1 – 7].
وأمر الله تعالى بجبر خواطر أولي القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا قسمة الميراث، بأن يُعطَوا شيئًا منه ويتلطف معهم في الكلام.
فقال تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [النساء: 8].
جبر الخواطر في السنة النبوية
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من أكثر الناس حرصاً على جبر الخواطر، والهدي النبوي مليء بالأمثلة والمواقف الدالة على مراعاة مشاعر الناس وأحاسيسهم منها:
-عندما جاء فقراء المهاجرين مكسوري الخاطر بسبب فقرهم، وأن الأغنياء سبقوهم الى الله تعالى بفضل أموالهم، فما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن جبر خواطرهم، بقوله:
(أَوَليسَ قدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عن مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)البخاري.
-ومواساته -صلى الله عليه وسلم- للأنصارعند تقسيم الغنائم بقوله: (لو سلك النَّاسُ وَادِيًا، أَوْ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأنْصَارُ وَادِيًا، أَوْ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ، أَوْ شِعْبَ الأنْصَارِ)البخاري.
-بل جبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بخواطرنا ولم يرنا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ:
(السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ووَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحابِي، وَإِخْوَانُنَا لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، فَقَالُوا:
كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟
فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ).
إن جبر الخواطر ومراعاة المشاعر له أثر طيب في النفوس، ولا يحتاج ذلك منك إلى جهد كبير،
فأقل ما يمكن أن تفعله هو كلمة طيبة لمكسورالخاطر تخفف عنه ما حل به، أو بمشاركة وجدانية في محنته، فهذه امرأة من الأنصار دخلت على عائشة -رضي الله عنها- في حادثة الإفك وبكت معها،
فلم تنس عائشة -رضي الله عنها- ما فعلته لأجلها تلك الأنصارية، مع أنها لم تذكر إلا أنها جلست تبكي معها !!!.