الوسطية مفهومها ومظاهرها وحاجة الأمة إليها
الإسلام دين الوسطية والاعتدال، والوسطية إحدى خصائصه العامة، فالتوسط والاعتدال من أعظم الخصائص التي يتميز بها الدين الإسلامي.
جوانب الوسطية في الإسلام
تتجلى وسطية الإسلام في كل جوانبه، عقيدة وشريعة، عبادات، ومعاملات، سلوك، وآداب.
فهي وسطية شاملة جامعة، وسطية فى الإعتقاد والتصور، ووسطية فى الشعائر والتعبد، ووسطية فى الأخلاق والسلوك، ووسطية فى النظم والتشريع، ووسطية فى الأفكار والمشاعر، ووسطية بين الروحية والمادية.
المفهوم اللغوي للوسطية
جاءت كلمة (وسط) في اللغة بعدة معان لكنها متقاربة في مدلولها، قال ابن فارس: (الواو، والسين، والطاء بناءٌ صحيح، يدل على العدل والنصف، وأعدل الشيء، أوسطه ووسطه).
وقال الجوهري: (الوسط من كل شيء: أعدله، ويقال أيضًا: شيء وسط؛ أي: بين الجيد والرديء، وواسطة القلادة: الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها).
المفهوم الشرعي للوسطية
جاءت الوسطية في الاصطلاح الشرعي بمعنى التوازن والتعادل بين الطرفين، بحيث لا يطغى طرف على آخر، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وإنما اتباع للأفضل والأعدل، والأجود والأكمل.
وليس المراد بالوسطية أن يكون المسلم فى درجة المتوسط فى عبادته أوعمله أو سلوكه، ولا أن يكون متوسط العلم أو العمل أو السعى أو الخلق، أو أنه لا يكون متقدمًا ممتازًا فى هذه الأمور.
بل المراد بالوسطية الأجود والأفضل، والأكمل والأعدل، وخير الأمور أوسطها أى: أعدلها.
الوسطية سمة هذه الأمة
الوسطية هي إحدى المعالم الأساسية التي ميز الله بها هذه الأمة عن باقي الأمم، قال تعالى في وصف أمة محمد -صلى االله عليه وسلم-:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..)[البقرة- 143].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: “إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيارالأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترف لكم بالفضل).
وقال الماوردي -رحمه االله تعالى-: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، [البقرة- 143]، فيه ثلاثة تأويلات:
الأول: يعني خيارا، من قولهم فلان وسط الحسب في قومه،إذا أرادوا بذلك الرفيع في حسبه.
والثاني: الوسط من التوسط في الأمور، لأن المسلمين توسطوا في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، ولا هم أهل تقصير فيه،
كاليهود الذين بدلوا كتاب االله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم، فوصفهم االله تعالى بأنهم وسط، لأن أحب الأمور إليه أوسطها.
والثالث: يريد بالوسط: عدلا، لأن العدل وسط بين الزيادة والنقصان.
الوسطية والاعتدال في السنة النبوية
وللسنة النبوية دورها فى الوسطية والاعتدال من خلال الأحاديث النبوية، ومن تطبيقات الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها.
فعندما نستعرض سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- نجد فيها خاصية الوسطية والاعتدال واضحة جلية.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا:
وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ
آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا،
فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا، أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)البخاري
وحذر الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- من الغلو: (إياكم والغُلُوَّ في الدينِ، فإِنَّما هلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُم بالغُلُوِّ في الدينِ)صحيح الجامع عن عبدالله بن عباس
والمقصود بالغلو التشدد ومجاوزة الحد، أي أنه خلاف معنى الوسطية والاعتدال.
مظاهر الوسطية في الإسلام
وتكمن وسطية الإسلام في العديد من المظاهر، منها:
وسطية الإسلام في العقيدة
فليس فيها تعقيد، ولا غموض، ولا طلاسم، وهي وسط بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، والزيادة والنقصان.
وفي هذا يقول شيح الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى -:( فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه، وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام).
ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (وأهل السنة وسط في النحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، توقد مصابيح معارفهم من شجرةٍ مباركة زيتونة لا شرقيَّة ولا غربيَّة، يكاد زيتها يضيءُ ولو لم تمسَسْه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره مَن يشاء).
وسطية الإسلام في العبادة
فهى عبادة ميسورة، فى وسع كل إنسان أن يأتى بها فلا صعوبة فيها، ولم يكلف الله تعالى عباده إلا بما هو فى وسعهم (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[سورة البقرة، الآية 286]
والإسلام وسط في عباداته، وشعائره بين الأديان، والنحل التي ألغت جانب العبادة كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده وبين الأديان التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والإنتاج، كالرهبانية المسيحية.
ومن العبادات التى تتجلى فيها الوسطية : الصلاة، فليست كثيرة شاقة، ولا قليلة لا تترك أثرا، بل هى خمس صلوات فى اليوم والليلة،
ولا تعارض بين أدائها وبين العمل فى الحياة، والسعى فى الرزق، فالمسلم يعمل ويكدح ويسعى، فإذا نودى للصلاة، أجاب ثم يعود إلى عمله.
فهناك توازن عجيب بين الدين والدنيا، فهو لا يطلب الحياة الدنيا على حساب الآخرة ولا الآخرة على حساب الدنيا.
وسطية الإسلام في الأخلاق
فالإسلام وسط في الأخلاق والسلوك، فقد جاءت الشـريعة الإسلامية وسطاً بين الإفراط والتفريط في الالتزام الأخلاقي، وبين الجنوح إلى المثالية الخيالية.
فالإسلام وسط في الأخلاق بين غلاة المثاليين؛ الذين تخيلوا الإنسان ملاكاً أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له،
وبين غلاة الواقعيين؛ الذين حسبوه حيواناً، أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به،
فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية، فاعتبروها خيراً محضاً، وهؤلاء أساءوا بها الظن، فعدوها شراً خالصاً، وكانت نظرة الإسلام وسطاً بين أولئك وهؤلاء.
إن الوسطية والاعتدال اختيار من الله تعالى لهذه الأمة، ومن أهم خصائص ومزايا المنهج الإسلامي،
ولعل الأمة اليوم أحوج ما تكون إليها لحمايتها من الجنوح والغلو والانحراف، العقدي، والسلوكي والأخلاقي، والفكري، الذي أبعد البعض عن الفهم الحقيقي للإسلام.