الدنيا دار ابتلاء وامتحان، يبتلى فيها المؤمن بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، والصحة والمرض، والغنى والفقر.
الدليل على الابتلاء
قال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 155].
الابتلاء سنة ربانية
إن الابتلاء في الدنيا سنة من سنن الله الربانية؛ فطبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها تقتضي ألا يخلو المرء فيها من كوارث وشدائد تصيبه، كإخفاق في عمل، أو يبتلى بموت حبيب، أو يمرض، أو يفقد منه مال أو ولد، أو غير ذلك من البلايا والفتن والشدائد والمحن.
أولا: الابتلاء سنة الله في خلقه
الابتلاء سنة الله تعالى في خلقه، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].
فالعباد يتقلبون بين فتنتين، فتنة الخير، وفتنة الشر، وهذا كله من باب الابتلاء والاختبار، لينظر سبحانه وتعالى إلى صبر عباده وشكرهم، وليعلم الصادق من الكاذب.
قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 1- 2].
فالبلاء فيه تمحيص واختبار، والناس قسمان؛ قسم صبروا ورضوا بقضاء الله وقدره ففازوا، وقسم قنطوا ويأسوا فخسروا الدنيا والآخرة.
لذا وجب على المسلم الذي يبتلى في دينه، أو نفسه، أو ولده، أو ماله، أو غير ذلك من أنواع الابتلاءات أن يصبر نفسه، وأن يرضى بقضاء الله وقدره، وأن يحمد الله تعالى على تدبيره.
حِكَم الابتلاء
الابتلاء هو الاختبار والامتحان؛ يبتلينا الله عز وجل لحكم يعلمها سبحانه، ومنها:
التمحيص
قال تعالى: (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 173]، ليحمل الأمانة من تمكن الإيمان من قلبه، ويفوز بالجنة من يستحقها.
رفع الدرجات
روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)[رواه البخاري]، أي: يبتليه بالمصائب والمحن ليرفع درجاته، ويزيد في حسناته على ما يكون من صبره واحتسابه.
وفي هذا الحديث بشرى عظيمة لكل مؤمن، وإنما كانت المصيبة خيرا؛ لما فيها من اللجوء إلى المولى عز وجل، وفيها تكفير السيئات، وتحصيل الحسنات، فالمسلم يجزى على تحمله مصائب الدنيا، فتكون له كفارة؛ فعلى المسلم أن يصبر على المصائب ولا يجزع؛ حتى ينال الفضل من الله برفع درجاته وتكفير ذنوبه.
تكفير الذنوب
ففي الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن مُصِيبَةٍ يُصابُ بها المُسْلِمُ، إلَّا كُفِّرَ بها عنْه حتَّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها)[متفق عليه]،
فللصبر على المرض والابتلاءات ثواب عظيم عند الله عز وجل؛ فكل ما يصيب المؤمن من تعب، أو هم، أو غم، أو حزن، خير له، فما من مصيبة تصيب العبد المؤمن إلا ويرفع الله بها درجته، حتى لو كانت هذه المصيبة شوكة تصيب العبد فتؤلمه، فإن الله سبحانه يكفر بها من خطايا العبد تفضلا وتكرما منه جل وعلا.
الابتلاء في حياة الأنبياء
الأنبياء عليهم السلام لم يستثنوا من الابتلاء في هذه الحياة وإنما كانوا من أشد الناس بلاء.
نوحٌ عليه السلام
ابتلي نوح عليه السلام بابنه، الذي ابتعد عن الإيمان، ودخل في الكفر، ولما جاء الطوفان قبل وقوع العذاب، يناديه: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) [هود: 42]،
فيجيبه بلغة التمرد والعناد اﻷعمى: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) [هود: 43]، والنتيجة: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 43].
وتتحرك مشاعر اﻷبوة أملا في نجاته، (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود: 45].
فيأتيه الجواب من العلي الكبير: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود: 46].
إبراهيم عليه السلام
ابتلي إبراهيم عليه السلام بمعاداة أبيه وقومه له، وبالإلقاء في النار؛ قال الله تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء: 68 – 70]،
ولكن الله سبحانه نجاه من تلك النيران، وابتلي بالأمر بذبح ابنه إسماعيل؛ ثم فداه بكبش عظيم، ورزقه الله اﻷولاد وأصبح أمة وحده.
لوطٌ عليه السلام
وابتلي نبي الله لوط عليه السلام بزوجته التي خانت بيت النبوة، وانحازت إلى القوم المفسدين، قال الله تعالى: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود: 81].
يونسُ عليه السلام
فارق يونس عليه السلام قومه غاضبا عليهم؛ لأنهم لم يستجيبوا لدعوته، وظن أن الله لن يضيق عليه ولن يعاقبه؛ قال تعالى: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء: 87]؛
فابتلي بأن ابتلعه الحوت؛ (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87، 88].
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
النبي صلى الله عليه وسلم صبر على أذى قومه، واحتمل ما لم يحتمله نبي قبله، من غنى وفقر، وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله،
فرفع الله له ذكره وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الخلق، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفا وفضلا، وساقه بها إلى أعلى المقامات.
كيف نواجه الابتلاء
لابد وأن يتسلح المسلم بأسلحة متوعة لمواجهة سنة الابتلاء في هذه الحياة منها:
حسن الظن بالله والصبر
الإنسان يمر بأوقات يشعر فيها بالضيق والحزن والتعب النفسي، وقد يتطور الأمر إلى أن يصاب بالقلق، لأن الشيطان يبدأ بالوسوسة في عقله بأن الله لم يفرج همه، ومن هنا يبدأ سوء الظن بالله يتسلل إلى قلب الإنسان والعياذ بالله.
ومن حسن الظن بالله أن ينظر الإنسان للابتلاء الذي وقع بأنه خير؛ فقد بين القرآن الكريم أن الصبر على المصائب والابتلاءات له ثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
المداومة على الاستغفار
إن كثرة الاستغفار سبب لدفع البلاء، قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33]، وسبب في تفريج الهموم والضيق،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[رواه أبو داود].
الصلاة على النبي صل الله عليه وسلم
كما إن الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر الأعمال التي تجلب الخير وتدفع البلاء، وفي الحديث عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: (مَا شِئْتَ). قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: (مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: (مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)،
قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: (مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ)[رواه الترمذي وحسنه الألباني].
قول: لا حول ولا قوة إلا بالله
لا حول ولا قوة إلا بالله مأوى المهمومين، فهي تحول المرض إلى شفاء، والفقر إلى غنى، والفشل إلى نجاح، فإذا ضاقت بك الطرق، فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا تراكمت عليك الديون، وكثر المطالبون، فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا حول ولا قوة إلا بالله طريق الخلاص.
الإكثار من الصدقة
وهي من أهم ما يرفع البلاء عن المسلم، كما أن الصدقة سبب سرور المتصدق ونضرة وجهه يوم القيامة، أنها تطفئ غضب الرحمن، وتدفع ميتة السوء، وتظل صاحبها يوم القيامة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ)[رواه الترمذي].
الإكثار من الدعاء
الدعاء هو لب العبادة، فبقدر عظم البلاء يعظم معه فضل الدعاء، فيصير الإنسان أحوج ما يكون إلى طرق باب السماء بالدعاء، فإذا انقطعت الأسباب، فلا يبقى إلا باب العزيز الجبار، وخير الدعاء ما كان خالصا خفيا من خضوع وخشوع؛ قال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) [الأعراف: 55].
للاطلاع على المزيد: