جمع البر بالوالدين في حياتهما من الخير أكمله، والاستمرار على ذلك بعد وفاتهما أكمل، فحاجتهما إلى هذا البر أكبر ونفعه لهما أعظم،
نفع بر الوالدين بعد الموت
إن الإنسان إذا مات انقطع عمله، فيصبح أغلى شيء عنده أن يهدي إليه أحد من أهل الدنيا حسنة أو دعوة، وهنا يأتي دور الولد الصالح الذي أخبر عنه النبي صلوات الله عليه وسلامه بقوله في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم:
﴿إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ﴾ أخرجه مسلم (1631)، فيكون هذا الولد بما يعمله لهما من أعمال البر والخير وصلا لحبل قد انقطع، فيسعد به الميت، ويدخل عليه السرور.
وربما كان من المسلمين من قصر في حق والديه في حياتهما، ولم يقم بحق برهما حق القيام، فمن فضل الله تعالى على الأبناء أنه لم يوقف البر على حياة الوالدين، ولم يقطعه بموتهما، بل أبقى حقوق البر على الابن بعد موت والديه لمن أراد الخير، وليفتح أبواب النفع أمام الحي والميت جميعا.
فإمكانية البر ما زالت مستمرة حتى بعد موت الوالدين، فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي، قال: (بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟
قَالَ: ﴿نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا﴾. (رواه أبو داود وابن ماجه).
انظر إلى هذا البار بوالديه، لم يكتف ببرهما حال الحياة، فهو يسأل عن برهما بعد الموت، فإليك بيان سبل البر بعد الممات مفصلة، فعض عليها بنواجذك:
الاستغفار للوالدين
الاستغفار لهما هو طلب العفو والصفح والمغفرة، وهو أعلى وأغلى الأدعية، وهو دعاء الأنبياء لوالديهم كما قال نوح عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: 28]،
وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ﴾ (أخرجه أحمد وإسناده حسن).
وعن همام قال: قلت لكعب: أحتسب عند الله ما فاتني من بر الوالدين؟ قال: ((لَمْ يَفُتْكَ بِرُّهُمَا، اسْتَغْفِرْ لَهُمَا، وَاجْعَلْ لَهُمَا حَظًّا مِنْ صَلَاتِكَ، وَصِيَامِكَ، وَصَدَقَتِكَ، تَكُنْ مِنَ الْأَبْرَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)) (البر والصلة للحسين بن حرب ص: (50) .
الدعاء للوالدين
الدعاء لهما بما ينفعهما في الدار الآخرة، أن يوسع الله قبورهما، وأن يجعلها روضة من رياض الجنة، ويجعلهما مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا،
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ﴾ أخرجه مسلم (1631)،
فبين الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، إلا في هذه الأشياء الثلاثة، ومنها: دعاء الولد الصالح، لأنه كان سببا في وجوده وصلاحه، وإرشاده إلى الهدى.
وهذه علامة من علامات صلاح العبد، أن يكون دائم الاستغفار، والدعاء لوالديه، وانظر إلى السلف وعلو همتهم في ذلك، قال عامر بن عبد الله بن الزبير: (مَاتَ أَبِي، فَمَا سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَوْلًا كَامِلًا إِلَّا الْعَفْوَ عَنْهُ) المجالسة وجواهر العلم (4/ 486).
وقال سعيد بن المسيب: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ بَعْدَهُ، وَقَالَ: بِيَدَيْهِ هَكَذَا، فَرفَعَهُمَا)) البر والصلة للحسين بن حرب ص: (47).
قضاء الدين والنذور والكفارات عن الوالدين
فالميت مرهون بدينه، أي محبوس عن الجنة بسببه حتى يقضى عنه، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ﴾ أخرجه الترمذي (1078)، وصححه الألباني.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ﴾ أخرجه مسلم (1886).
وقضاء النذور عنهما، كنذر الصيام، والحج أو العمرة، أو غير ذلك فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: ﴿لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟﴾ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ﴿فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى﴾ أخرجه مسلم (1148)
وكذلك قضاء الكفارات عنهما، ككفارة اليمين، وكفارة قتل الخطأ، وغير ذلك، ، فكل الديون الواجبة لله -تعالى- من الكفارات، والنذور، وفرض الحج، والعمرة، والصوم، تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى﴾.
إنفاذ عهد الوالدين من بعدهما
إنفاذ عهدهما من بعدهما: المقصود به هنا هو الوصية، والحق أن العهد أعم من الوصية، نعم الوصية من وآكد العهود، ويجب تنفيذها إذا كانت بالثلث أو أقل، وإن زادت استحب تنفيذها من باب البر والفضل.
ويدخل في معنى العهد: إذا كان أحد الوالدين عهد بالإحسان إلى أخ لحاجته، أو إلى أخت لفقر أو مرض، أو إلى جار أو قريب بعينه، أو صاحب أو صديق، أو بالاهتمام بشيء معين، فمن البر تنفيذ ذلك والقيام به ما لم يكن إثما أو معصية.
قضاء صيام رمضان عن الوالدين
قضاء صيام رمضان عنهما، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق، والشاهد: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى﴾ أخرجه مسلم (1148)،
وفيه دليل على أن الصوم يقضى عن الميت، سواء كان الصوم عن فرض، أو عن نذر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ﴿مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ﴾. أخرجه البخاري (1952) ومسلم (1147)
الصدقة عن الوالدين
أجمع أهل العلم على وصول ثواب الصدقة إلى الميت، فعن سعد بن عبادة، رضي الله عنه، أن أمه توفيت وهو غائب عنها، فقال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: ﴿نَعَمْ﴾. ((قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا) أخرجه البخاري (٢٧٥٦).
ومن أفضل الصدقة الوقفُ النافع لهما: لأن أجره دائم، فبناء المساجد والمستوصفات الخيرية لعلاج المحتاجين، وحفر الآبار، وطباعة المصاحف وكتب العلم النافع، وكفالة الأيتام والأرامل، هذا كله من العمل الذي يستمر نفعه ويبقى أثره أوقاتا طويلة.
صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما
صلة الرحم واجبة وتكون أوجبَ بعد وفاة الأصول كالأب والأم، وهذه الصلة تشمل الأعمام والعمات والأخوال والخالات ، والإخوة والأخوات.
فلنحرص على صلتهم والإحسان إليهم، وانتقاء الكلمات الطيبة لهم، وزيارتهم باستمرار حتى لا تنقطع الرحم بعد وفاة الوالدين، وإنما تظل متصلةً؛ فننال بها أجر صلة الرحم وبر الوالدين بعد موتهما.
عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: (قَدِمْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَانِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ﴿مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ﴾
(وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ، وَبَيْنَ أَبِيكَ، إِخَاءٌ وَوُدٌّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصِلَ ذَاكَ)) أخرجه ابن حبان (432) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 659).
إكرام صديق الوالدين
كلٌّ من الآباء والأمهات يكون لديهم أصدقاء مقربون، فمن البر للآباء والأمهات صلة هؤلاء الأصدقاء بعد وفاة الوالدين، فعن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، رضي الله عنهما: أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ﴿إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ﴾ أخرجه مسلم (2552).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: ﴿أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ﴾ فعن عائشة قالت: ((مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ، وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا، قَالَتْ:
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ قَالَ: ﴿أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ﴾ ((قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا﴾ أخرجه مسلم (2435).
إن من أعظم ما يقدمه الولد لوالديه بعد موتهما صلاحَه هو في نفسه، والتزامَه العمل الصالح، وكل ما يعمله مما أمره الوالد به ودله عليه وتمناه له من الدين والخير فهو في ميزان الأب والأم، فكلما أكثر من عمله كلما زاد في موازين والديه.
للاطلاع على المزيد: