الشكر من أسمى الفضائل وأعظمها قدرا، فهو فضيلة تقرب العبد من مولاه، بل وتجعله موضع حبه ورضاه، فرضاه سبحانه وتعالى في شكره، كما أن سخطه في كفران نعمته.
المنزلة العظيمة للشكر
بين الله سبحانه وتعالى أن شكره سبب لحصول رضاه، فيقول تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7].
الشكر وصف الله به نفسه
ومما يدل على بيان فضل الشكر، وعظيم منزلته، أن الله تعالى وصف به نفسه، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [التغابن: 17]، وقال جل شأنه: ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147].
الشكر قرين الذكر
ثم قرنه الله تعالى بالذكر في آية واحدة، وأمر بهما، فجعل ذكره وشكره هما الوسيلة والعون على الوصول إلى رضاه سبحانه وتعالى، فقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].
الشكر قرين الإيمان
ثم قرنه الله تعالى بالإيمان، وبين أنه تعالى لا غرض له في عذاب عباده، إذا هم شكروه وآمنوا به، فيقول الله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147]،
فالشكر أمان من عذاب الله، ولذا فالشاكر يحصل له الأمان من عذاب الله تعالى، بخلاف المنافق المعرض لعذاب الله عز وجل.
الشكر سبب لدوام النعم
وقد وعد الله الشاكرين بدوام النعم، وزيادتها وبركاتها، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، والشاكرون هم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة،
قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 145].
تأملوا معي قوله تعالى: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾، فإذا كانت الهموم تحيط بك، والمشكلات تحاصرك، وتريد مخرجا من كل ذلك، فاحمد الله تعالى، وداوم على شكره، وحاول أن تقدم عملا نافعا للآخرين، من أقاربك وأهلك وجيرانك، فالحمد سر لا يعلمه إلا من يتعاطاه.
الشكر نجاة
والشكر سبب للنجاة من عقوبات الدنيا وشرورها، ومن كربات الآخرة وأهوالها، قال الله تعالى عن قوم لوط عليه السلام: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 34-35].
الشاكرون أهل للنعم
والشاكرون هم أهل لنعم الله، خصهم بما لم يخص به غيرهم، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53].
الشاكرون خاصة الله تعالى
والشاكرون هم خاصة الله تعالى من خلقه، فلا عجب أن كانوا قليلا، قال الله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13].
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا دَعَا بِعَرَفَاتٍ إِلَى جَنْبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ فِي دُعَائِهِ:
“اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْأَقَلِّينَ”.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا هَذَا الدُّعَاءُ؟
قَالَ: سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: 24]، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40]، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13].
فَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَا يُعْرَفُ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: لَوْ دَعَوْتُ مَخْلُوقًا، لَدَعَوْتُهُ بِمَا يُعْرَفُ، وَلَكِنِّي أَدْعُو مَنْ يَعْلَمُ مَا فِي الْقَلْبِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ لِسَانٌ.
فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ. (المجالسة وجواهر العلم (5/ 23)، برقم: (1813).
الشكر جزاءه منجزا
ومن يتأمل كتاب الله، ويتدبر آياته، يجد أن الله قد علق كثيرا من الأمور على المشيئة:
- كالرزق، قال تعالى: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 212].
- وكالمغفرة، قال تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 129].
- وكالتوبة، قال تعالى: ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التوبة: 15].
- وكالغنى، قال تعالى: ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ﴾ [التوبة: 28].
- وكالدعاء، قال تعالى: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾ [الأنعام: 41].
- أما جزاء الشكر، فإن الله عز وجل لم يعلقه على مشيئته كما علق غيره، بل جعله منجزا، فقال تبارك وتعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]،
وقال سبحانه وتعالى عن الشكر: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 145]،
وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 35]، وفي هذه الآيات دلالة على عظم مقام الشكر.
الرضا في الشكر
والله تبارك وتعالى أوصى الإنسان بالشكر، فقال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14]، وأخبر سبحانه أن رضاه تبارك وتعالى في شكره، فقال تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7].
أهل الشكر هم أهل المحبة
والله تبارك وتعالى جعل للإنسان طريقين، وقسم الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الخلق إليه سبحانه، هم أهل الكفر، وأحب الخلق إليه سبحانه، هم أهل الشكر، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3].
والله سبحانه وتعالى، يقابل بين الشكر والكفر في أكثر من موضع، قال تعالى عن الإنسان: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3].
وقال سليمان عليه السلام: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40].
وهكذا ندرك أن الشكر فريضة على كل مسلم، وتركه قد يؤدي إلى الكفر.
الشاكرون هم الأقلون
لما علم عدو الله إبليس قيمة الشكر، تعهد أن يشككهم في الآخرة، ويرغبهم في الدنيا، فيجعلهم غير شاكرين، فقال الله عنه: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 17]،
لذلك وصف الله سبحانه عباده الصالحين الشاكرين بأنهم الأقلون، فقال الله عز وجل: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13].
فضل الطاعم الشاكر
وقد حفلت السنة النبوية المطهرة، بالأحاديث التي تبين فضيلة الشكر، وجزاء الشاكرين، منها ما رواه الترمذي في سننه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ﴿الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ، بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ﴾، (أخرجه الترمذي (2486)، وصححه الألباني).
والطاعم الشاكر، أي الذي يأكل الأكلة، فيحمد الله، فهو بمنزلة الصائم الصابر، أي كل منهما مأجور.
وروى ابن ماجة في سننه عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ﴾ (أخرجه ابن ماجه (3805)، وحسنه الألباني).
وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا﴾ (أخرجه مسلم (2734).
بيت الحمد لمن صبر وشكر
بيت الحمد هو بيت في الجنة، جزاء لمن صبر وشكر، روى الترمذي في سننه، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
﴿إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ، قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ﴾ (أخرجه الترمذي (1021)، وحسنه الألباني).
الشكر والذكر من أسس الدين
ومما يدل على فضل الشكر، وأهميته للعبد، وأنه أحد الأسس التي بني عليها الدين، هو قول ابن القيم رحمه الله: مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، ثم يدلل رحمه الله على ذلك بقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152]،
وبقوله صلى الله عليه وسلم، لمعاذ رضي الله عنه: ﴿يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ﴾ (أخرجه أحمد (22119)، طبعة الرسالة: (36/ 430)، قال الشيخ شعيب: إسناده صحيح).
الشكر محو للذنوب
وشكر الله على نعمه من مأكل وملبس باب كبير لمحو الذنوب وغفرانها، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ،
قَالَ: وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ (أخرجه أبو داود (4023)، وحسنه الألباني).
للاطلاع على المزيد: