إسلام الجن بعد سماعهم للقرآن ووصية النبي بهم
النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله للإنس والجن وكافة الخلق بالحق والهدى ليرشدهم إلى طريق الحق والنور.
سماع الجن للقرآن
أخبرنا الله تعالى عن سماع الجن للقرآن وكيف كانت ردة فعلهم عند سماعه، فقال الله:
(وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ
قَالُواْ يَٰقَوۡمَنَآ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٖ مُّسۡتَقِيمٖ
يَٰقَوۡمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ).
في هذه الآية توبيخ لمشركي مكة الذين أصروا على كفرهم بالرغم من أنهم أهل البلاغة والبيان،
أخبرهم الله أن الجن بمجرد سماعهم للقرآن من النبي -صلى الله عليه وسلم- في بطن نخلة قال بعضهم لبعض أنصتوا حتى يتمكنوا من سماعه، فلما قضى رسول الله قراءته انصرفوا إلى قومهم منذرين ومحذرين لهم من عدم الإيمان به.
وذكر هؤلاء الجن لقومهم أنهم سمعوا كتابا أنزل من بعد نبي الله موسى، ولم يذكروا نبي الله عيسى بالرغم من أنه الذي كانت بعثته قبل محمد -صلى الله عليه وسلم-؛
لأن عيسى -عليه السلام- لم تكن له شريعة مستقلة ناسخة للشرائع قبلها، وإنما كانت شريعته متممة لشريعة موسى -عليه السلام- فقال الله: (وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ)
أما شريعة موسى -عليه السلام- فكانت شريعة ناشخة للشرائع قبلها، حتى جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فنسخت شريعة موسى -عليه السلام-.
لقاء النبي بالجن
عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن؟
قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود. فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن؟ قال: لا.
ولكنا كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير أو اغتيل.
قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم.
فقال: (أتاني داعي الجن. فذهبت معه. فقرأت عليهم القرآن) قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد. فقال:
(لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحما. وكل بعرة علف لدوابكم) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم)[مسلم]
الجن أهل الدعوة
يستفاد من هذا الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثه الله إلى الإنس والجن، وأن المسلم ينبغي أن يبلغ هؤلاء أيضا، فإنهم أهل الدعوة.
ذكر صاحب الإفصاح عن معاني الصحاح قال: حدث أن الشيخ محمد بن يحيى كان خارجًا من مكة يقصد المدينة وحده قال:
فنوديت من بعض الجبال في حفظ الله وفي ودايعه؛ فقلت: من أنت تكون رحمك الله؟ فقال: إخوانك الجن يسلمون عليك ويودعونك.
ذكر الله على العظام
يستفاد من هذا الحديث أيضا أنه ينبغي للإنسان ألا يطرح عظما إلا ويذكر عليه اسم الله، فإنه يعود بذلك أوفر ما كان عليه من اللحم، ثم يكون طعاما لإخواننا من الجن، وأن بعر الداوب إنما يكن علفا لدواب الجن.
النهي عن الاستنجاء بعظم أو روث
يستفاد من هذا الحديث أيضا أنه لا يجوز الاستنجاء بالعظم ولا بروث الحيوان؛ لأن هذا هو طعام إخواننا من الجن.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يحمل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: (من هذا).
فقال: أنا أبو هريرة، فقال: (ابغني أحجارا أستنفض بها، ولا تأتيني بعظم ولا بروثة).
فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟
قال: (هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاما)[البخاري]
التحذير من إيذاء الجن المسلم
عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته،
فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم.
قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله،
فاستأذنه يوما فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة).
فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها الرمح ليطعنها به وأصابته غيرة،
فقالت له: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني! فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به،
ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا؛ الحية أم الفتى؟
قال: فجئنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا! فقال: (استغفروا لصاحبكم).
ثم قال: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان)[مسلم]
قال الطبرى: الرواية عن النبى -عليه السلام- أنه أمر بقتل الحيات من غير استثناء شىء منها خبر مجمل، بَّين معناه الخبرُ الآخر أن النبى -عليه السلام- نهى عن قتل جنان البُيوت وعوامرها إلا بعد النشدة بالعهود والمواثيق التى أخذ عليها حذار الإصابة،
فأقل ذلك شيئًا من التمثل بالحيات، فيلحقه من مكروه ذلك ما لحق الفتى المعرس بأهله، إذ قتل الحية التى وجدها على فراشه قبل مناشدته إياها، وذلك أنه ربما تمثل بعض الجن ببعض صور الحيات، فيظهر لأعين بنى آدم،
كما روى ابن أبى مليكة عن عائشة بنت طلحة، أن عائشة أم المؤمنين رأت يومًا فى مغتسلها حية فقتلتها، فأتيت فى منامها فقيل لها: إنك قتلت مسلمًا.
فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمهات المؤمنين. فقيل: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فزعة، ففرقت فى المساكين اثنا عشر ألفا.
وقال ابن نافع: لا ينذر عوامر البيوت إلا بالمدينة خاصة على ظاهر الحديث. وقال مالك: أحب إلى أن تنذر عوامر البيوت بالمدينة وغيرها، وذلك بالمدينة أوجب، ولا ينذر فى الصحارى.
وقال غيره: المدينة وغيرها سواء فى الإنذار؛ لأن العلة إسلام الجن، ولا يحل قتل مسلم جنى ولا إنسى.
الاستعاذة من الشياطين
كان النبي -صلى الله عليه سلم- يستعيذ بالله من شياطين الجن، فعن أبي الدرداء قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعناه يقول: (أعوذ بالله منك).
ثم قال: (ألعنك بلعنة الله ثلاثا) وبسط يده كأنه يتناول شيئا. فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال:
(إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة.
فلم يستأخر ثلاث مرات. ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة)[مسلم]
معنى أعوذ بالله منك: إظهارا لغاية الخوف والافتقار إلى الله تعالى، والاحتياج إلى دوام فضله وعصمته،
(ثم قال: ألعنك بلعنة الله) ، أي: إياك، والمعنى: أسأل الله أن يلعنك بلعنته المخصوصة لك التي لا توازيها لعنة، أو أبعدك عني بإبعاد الله لك.[مرقاة المفاتيح]