الشكر للوالدين وبرهما في حياتهما

جبلت النفوس على شكر من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بمن تفضل عليها، وليس في الناس أعظم إحسانا ولا أكثر فضلا من الوالدين.

وجوب شكر الوالدين

شكر الوالدين فريضة، وقد أجمع العلماء على أن بر الوالدين وشكرهما من أعظم فرائض الدين، ومن أفضل عبادات المسلمين.

وشكر الوالدين: قرين توحيد رب العالمين، يقول سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ [النساء: 36]،

أي وحدوه وأفردوه بالعبادة، ولا تشركوا به شيئا، واستوصوا بالوالدين إحسانا وبرا وإكراما وإنعاما، فتأمل كيف قرن الله عز وجل الأمر بالإحسان إلى الوالدين مع الأمر بأعظم ما يؤمر به وهو توحيده سبحانه، أفلا يدلك ذلك على عظم حق والديك عليك.

الإحسان للوالدين

حق الوالدين لا يكفي فيه عدم الإساءة، بل لا بد من مقام أعلى من ذلك، وهو الإحسان إليهما مع عدم الإساءة إليهما،

وفضائل الوالدين كثيرة لا تعد ولا وتحصى، وسنبين كيف يكون شكر الوالدين في حياتهما، وما هي صوره وأشكاله، وكيف كان حال السلف مع والديهم، ليتسنى لنا أن ندرك درجات الصالحين، ونحصل هذا الأجر العظيم.

اللطف في معاملة الوالدين

يجب اللطف في معاملة الوالدين، وتقبيل أيديهما ورأسيهما، والتحدث إليهما باحترام، فمهما علت مكانة الإنسان فإنه لا يعلو ولا يتكبر على والديه،

فلولاهما لما كان له وجود، ولولا تعبهما وسهرهما على راحته، وتوفير ما يحتاج إليه، لما وصل إلى ما هو عليه من علم، وثقافة، ومركزا اجتماعيا وماديا.

ومن الإحسان إليهما عدم التأفف من شيء تراه، من أحدهما أو منهما، مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك، واحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا، كما صبرا عليك في صغرك،

واحذر الضجر والملل قليلا كان أو كثيرا، وعليك بالرفق واللين معهما، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

ومن الإحسان إليهما ألا تزجرهما، ولا ترفع صوتك فوق صوتهما، ولا تخالفهما على سبيل الرد عليهما، والتكذيب لهما، فإن فعلت ذلك، فأبشر بالخير الجزيل من الكريم الجليل.

الاهتمام بزيارة الوالدين وقضاء حوائجهما

يجب إظهار الاهتمام بهما بالزيارة، وقضاء حوائجهما، والإنفاق عليهما، لا تستصغر خدمتهما، كن لماحا وحاول أن تعرف ما يرغبه والداك، بين لهما أن أسعد أوقاتك هي التي تخدمهما فيه.

فالبر هو أن تستشف ما في قلبي والديك، ثم تنفذه دون أن تنتظر منهما أمرا، أن تعلم ما يسعدهما، فتسارع إلى فعله، وتدرك ما يؤلمهما، فتجتهد ألا يرياه منك أبدا، وقال بعض السلف:

(أَفْضَلُ ‌النَّفَقَةِ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى وَالِدَيْكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى وَلَدِكَ، وَزَوْجَتِكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى قَرَابَتِكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (الهداية إلى بلوغ النهاية (1/ 898).

قال هشام بن حسان: قلت للحسن البصري: (‌إِنِّي ‌أَتَعَلَّمُ ‌الْقُرْآنَ، ‌وَإِنَّ ‌أُمِّي ‌تَنْتَظِرُنِي ‌بِالْعَشَاءِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: تَعَشَّ الْعَشَاءَ مَعَ أُمِّكَ، تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهَا، أَحَبُّ إِليَّ مِنْ حَجَّةٍ تَحُجُّهَا تَطَوُّعًا) (البر والصلة لابن الجوزي ص: (73)،

فإذا أردت أن تنال هذا الأجر، فاجعل لوالديك من أوقات الغداء، أو العشاء ما تؤنسهما به.

إدخال السرور عليهما بالهدية والكلام الطيب

الهدية لها آثار طيبة على العلاقات الأسرية والأواصر فيما بين الناس، فهي تأكيد للمحبة والصداقة، وعنوان للوفاء، يفرح القلب بها، وينشرح الصدر لرؤيتها،

وهي دليل على الحب، وبريد إلى القلب، وهي شعار التقدير، وعنوان التكريم، لذلك فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدية، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على التهادي، فبها تطيب القلوب،

يقول صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ»، (أخرجه أحمد وابن حبان وصححه الألباني)، وقال صلى الله عليه وسلم: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» (أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني)

وقد روى البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» (رواه البخاري (2585)، فكان يكافئ صاحبها، فيعطيه عوضا عنها، ما هو خير منها أو مثلها.

والوالدان هما أحق الناس بالهدية في حياتهما، فهي جزء من حقهما عليه، ومهما قدم لهما فلن يوفي شيئا من حقهما، فلا تستصغر هديتك لوالديك.

الدعاء للوالدين والصدقة عنهما

كثير منا يظن أن الدعاء يكون من الوالدين لأبنائهم في حياتهم، ويكون من الأبناء للآباء بعد وفاتهم، وهذا خطأ كبير، بل يجب أن نعلم أن أولى الواجبات تجاه الوالدين لأداء شكرهما: “الدعاء لهما” في حياتهما.

تذكرهما بالدعاء في سجودك، وفي صلاة ترك، في دعائك المطلق، في حجك، في عمرتك، في طوافك، في آخر ساعة من يوم الجمعة، وبين الأذان والإقامة، وغيرها من أوقات الإجابة التي لا تخفى عليك، فتدعو لهما.

ادع لهما بالعافية، وحسن الخاتمة، وإطالة العمر على الطاعة، والهداية والصلاح، والشفاء مما قد يصيبهما من أمراض، وأن تعينهما على تربية إخوانك، وأن تيسر لهما الرزق الحلال الطيب، وأن تجزيهما خير الجزاء على ما بذلاه تجاهك،

قال جعفر: سمعت عروة بن الزبير يقول في سجوده لوالديه: (‌‌اللَّهُمَّ ‌اغْفِرْ ‌لِلزُّبَيْرِ ‌بْنِ ‌الْعَوَّامِ، ‌وَلِأَسْمَاءَ ‌بِنْتِ ‌أَبِي ‌بَكْرٍ) (مصنف عبد الرزاق (٤٠٤٢)، وابن أبي شيبة (٨١٠٧).

وكان سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه، يدعو لأمه كلما خرج أو دخل، فعن أبي حازم، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب، أخبره أنه ركب مع أبي هريرة، رضي الله عنه، إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته:

(عَلَيْكِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ يَا أُمَّتَاهُ، تَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، يَقُولُ رَحِمَكِ اللَّهُ رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا، فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ، وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا وَرَضِيَ عَنْكَ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا) (البخاري في الأدب المفرد (١٤)، وحسن إسناده الألباني في صحيح الأدب المفرد (١/ ٣٧).

ومن أجل الأعمال وأعظمها: الصدقة عنهما، ووضع الوقف الخيري لهما، وإشراكهما في أعمال الخير المالية في بناء المساجد، وحفر الآبار، وطباعة المصاحف، وأوقاف الخير العامة وغيرها.

تعليمهما ما ينفعهما ويقربهما إلى الله

من أجمل وأجل وأعظم ما يشكر به البار والديه، أن يعلمهما أمور الدين الصحيحة، فأول واجب على العبد أن يعلم أهله ومنهم الوالدان أمور الدين، وبخاصة الصلاة، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿‌وَأْمُرْ ‌أَهْلَكَ ‌بِالصَّلَاةِ ‌وَاصْطَبِرْ ‌عَلَيْهَا﴾ [طه: 132].

إن تبعة المسلم في نفسه، وفي أهله ووالديه تبعة ثقيلة رهيبة، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله، قال تعالى: ﴿‌يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌قُوا ‌أَنْفُسَكُمْ ‌وَأَهْلِيكُمْ ‌نَارًا ‌وَقُودُهَا ‌النَّاسُ ‌وَالْحِجَارَةُ ‌عَلَيْهَا ‌مَلَائِكَةٌ ‌غِلَاظٌ ‌شِدَادٌ ‌لَا ‌يَعْصُونَ ‌اللَّهَ ‌مَا ‌أَمَرَهُمْ ‌وَيَفْعَلُونَ ‌مَا ‌يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].

فعلى المسلم أن يقي نفسه، وأن يقي أهله هذه النار، وعليه أن يحول بينها وبينهم، قبل أن تضيع الفرصة ولا ينفع الاعتذار، وإن نجاة العبد من هذه النار، تحصل بطاعة الله سبحانه، والبعد عن مناهيه،

وإن إنجاء الأهل ووقايتهم من هذه النار العظيمة، تكون بتعليمهم ما يلزمهم من طاعة الله سبحانه وتحذيرهم من معاصيه، وبالحرص الدائب على إبعاد وسائل الشر والإفساد عنهم، وما أكثرها في هذا الزمان.

ألا وإن من أهم ما ينبغي تعليمه للأهل والأولاد، إيضاح حدود الله تعالى التي لا يجوز تعديها، وتبيين أحكام الله تعالى التي تهمهم وتتعلق بهم، ولا سيما النساء والبنات،

فقد يمنعهن الحياء عن السؤال وطلب الفهم، أو لا تجد من يعينها على معرفة أحكام الله تعالى، في ظل غفلة الأب والزوج الذي يظن عدم الحاجة إلى ذلك، أو أن هذه الأمور مما لا يخفى على أحد.

وتكمن الخطورة فيما لو تعلق الجهل بأحكام العقيدة، ونواقض الإسلام، فلربما خرج مسلم من الدين من حيث لا يشعر، لارتكابه ما يناقضه مما لا يعذر فيه المسلم بالجهل.

فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتفقدوا من حولكم من الأهل والعيال، فإنكم مسؤولون عنهم، قال صلى الله عليه وسلم:

«كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (متفق عليه)،

بل إنه يقول محذرا عاقبة الإهمال والتساهل: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » (متفق عليه).

فكونوا على حذر من ذلك يا عباد الله، وأدوا الأمانة التي حملتم إياها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].

للاطلاع على المزيد:

Exit mobile version