الشكر في حياة الأنبياء عليهم السلام
الشكر فضيلة عظيمة، ولقد أخبر الله تعالى أن رضاه في شكره، وأن سخطه في كفران نعمته.
الدليل على وجوب الشكر
يقول تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7]،
ومن عظيم منزلة الشكر أن الله تعالى وصف به نفسه، فقال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147].
الشكر من أخلاق الأنبياء
والشكر خلقا للأنبياء عليهم السلام، فيقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: 120-122].
ووصف الله عز وجل نوحا عليه السلام بأنه عبدا شكورا، فقال تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3]،
وقال الله تعالى عن سليمان عليه السلام: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40].
فكيف كان الشكر في حياة الأنبياء عليهم السلام؟
شكر نوح عليه السلام
أثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لشكره نعم الله، فقال تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3]،
وقد وصف الله تعالى نوحًا عليه السلام في الآية المذكورة بوصفين:
الأول: أنه عبدٌ لله تعالى، معترفٌ له بالعبودية، فكان يحس بنعمة العبودية لله جل جلاله، فلم يكن ذا جبروت، بل كان خاضعًا لله تعالى وحده، وهذا الخضوع هو الذي يحمل معنى العزة لنوح عليه السلام.
الثاني: أنه شديد الشكر لله تعالى على ما أنعم به عليه في سرائه وضرائه.
فنوح عليه السلام كان دائم الحمد لله تعالى في كل فعل يقوم به، وعن عمران بن سليم قال: (إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَكَلَ الطَّعَامَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي، وَلَوْ شَاءَ أَجَاعَنِي.
وَإِذَا شَرِبَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانِي، وَلَوْ شَاءَ أَظْمَأَنِي.
وَإِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي، وَلَوْ شَاءَ أَعْرَانِي.
وَإِذَا لَبِسَ نَعْلًا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَذَانِي، وَلَوْ شَاءَ أَحْفَانِي.
وَإِذَا قَضَى حَاجَةً قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي أَذَاهُ، وَلَوْ شَاءَ حَبَسَهُ)) (تفسير الطبري (14/ 453).
شكر إبراهيم عليه السلام
يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 120-121]،
فإبراهيم عليه السلام، كان أمة وحده، وذلك بسبب الشكر، فكان سيدنا إبراهيم عليه السلام شاكرا لله، كان أمة في الشكر، لذلك لما رأى من زوجة ابنه الجحود، وعدم الرضا، أمره بتطليقها.
وهذه القصة ذكرت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، من حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، وفيه:
«وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ،
فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقُولِي لَهُ، يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ،
قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى،
فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا.
قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: الْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ» (أخرجه البخاري: (3364).
شكر داود عليه السلام
كان داود عليه السلام رجلا راعيا للأغنام قبل أن يلتحق بجيش الملك طالوت، وقد أظهر داود عليه السلام شجاعة كبيرة في القتال ضد أعداء بني إسرائيل، وهو من تطوع ليتصدى لقائد العدو (جالوت)، حين طلب الأخير المبارزة، فقتل داود جالوت.
ثم إن الملك طالوت أعجب بشجاعة داود عليه السلام فقربه منه، فصار داود عليه السلام هو الملك من بعد طالوت،
قال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]،
فاتصف نبي الله داود عليه السلام بمجموعة من الصفات القيادية، وهي: الملك، والحكمة، والعلم، وقد خص الله نبيه داود عليه السلام، بمزيد من فضله ونعمه، ومن هذه النعم أن الله:
- سخر له الجبال والطير، تردد معه الذكر والتسبيح.
- ألان في يده الحديد، فصار كالعجينة، يصنع منه ما يشاء.
- يسر له تلاوة الزبور، وآتاه الملك، فجمع له خيري الدنيا والآخرة.
- أنعم عليه بالقوة في البدن، والحكمة في الرأس، والعدل في الحكم.
- أنعم عليه بالذرية الصالحة، قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: ١٦]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: ١٠].
- وقد جاء الخطاب القرآني لداود عليه السلام، بأن يشكر الله تعالى، هو وآله، قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: ١٣].
جاء في تفسير ابن كثير: (قَالَ فُضَيْلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سبأ: ١٣]، فَقَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَشْكُرُكَ، وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ مِنْكَ؟ قَالَ: الْآنَ شَكَرْتَنِي، حِينَ عَلِمْتَ أَنَّ النِّعْمَةَ مِنِّي) (تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 501)).
شكر سليمان عليه السلام
سليمان عليه السلام رزقه الله ملكا لم يكن لأحد من بعده، قال الله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40].
ونبي الله سليمان عليه السلام، لما كثرت عليه نعم الله، وتعددت آلاؤه، ابتهل إلى ربه قائلا: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: ١٩].
إن النعم إن لم يقابلها العبد بالشكر، والاعتراف بفضل الله المنعم، وأن تسخر في طاعته ورضوانه، انقلبت وبالا عليه.
شكر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
عاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته شاكرا لله تعالى، قانعا من الدنيا بالقليل؛ وشكر الله تعالى خصلة من خصال الإيمان عظيمة، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره مملوءة بتجسيد هذه الخصلة من الإيمان في أقواله وأفعاله، وفي كل شؤونه وأحواله.
وفي عبادته صلى الله عليه وسلم كان يطيل الصلاة طولا لا يقدر عليه غيره، ويريد بإطالتها شكر الله تعالى على ما هداه وحباه وأعطاه؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها:
«أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا» (متفق عليه).
ومما يدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بشكر الله تعالى أنه كان يوصي أصحابه رضي الله عنهم بالأدعية التي فيها طلب الإعانة على الشكر؛
كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم أخذ بيده وقال: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» (أخرجه أبو داود).
ومن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على شكر الله تعالى أنه يعلم أمته ذلك، ويربيه فيهم، ويبين لهم أن الشكر مثل الصبر، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلطَّاعِمِ الشَّاكِرِ مِثْلَ مَا لِلصَّائِمِ الصَّابِرِ». (أخرجه أحمد).
للاطلاع على المزيد: