العزة من الأخلاق الحميدة، وهي من أعظم ما يتحلى به المسلم من أخلاق الإسلام، وأعظم ما يعتز به المسلم دينه وكتاب ربه عز وجل.
العزة الممدوحة والمذمومة
والعزة التي مدحها الشرع هي التي لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، وهي الدائمة الباقية وهي العزة الحقيقية، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]،
أما العزة التي ذمها الشرع فهي التي للكافرين، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ [البقرة: 206].
العزة في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
قال الله تعالى في وصف خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]،
ومن أعظم ما اتصف به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أخلاق خلق العزة، وقد وضح ذلك جليا من مواقفه، ومن ذلك:
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عزيزًا في حياته قبل الإسلام وبعده، فقبل الإسلام لم يسجد لحجر، وكانت عزته تمنعه من أن يقترف ما اعتاده قومه من أخلاق الجاهلية الذميمة؛ كالكذب والخيانة والزنا وشرب الخمر.
وفي مراحل الدعوة الأولى جاء وفد من كفار قريش لعم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي طالب، يستنكرون على رسول -صلى الله عليه وسلم- ما يدعوا إليه،
فبعث أبو طالب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني يستنكرون ما تدعوا إليه، فأبق علي، وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَمّ، وَاَللهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ» (سيرة ابن هشام 1 / 240).
فهذه مواقف من العزة؛ كخلق من أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة والقدوة، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]،
فكان النبي -صلى الله عليه وسلم-، يربي الصحابة -رضوان الله عليهم- على معاني العزة، ويغرسها في قلوبهم غرسا، فكيف تأسى به الصحابة رضي الله عنهم.
عمر بن الخطاب
بعد هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة أسلم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وكان إسلامه حدثًا كبيرًا في مكة، ونصرًا عظيمًا للإسلام؛
فأسلم في الوقت الذي عزم فيه على الذهاب لقتل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأراد الله به الخير فأسلم، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ» (رواه البخاري، حديث: 3684).
ومن مواقف العزة لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أنه خَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَمَعَه أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ، فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ،
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا، تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَوَّاهْ لَوْ يَقُولْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا نَطْلُبِ الْعِزَّ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهُ (رواه الحاكم وقال: «صحيح على شرط الشيخين»، ووافقه الذهبي، والألباني).
جعفر بن أبي طالب مع النجاشي
جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أحد السّابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة المنورة،
وهو المعروف والمشهور بذي الجناحين، وقد قُتل شهيدا في غزوة مؤتة، ويقال له: ذو الجناحين، لأنه قد عوض بجناحين عن قطع يديه في غزوة مؤتة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت، ثم أخذه بشماله فقطعت، ثم احتضنه فقتل،
وعن الشعبي: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ» (رواه البخاري، حديث: 3709).
ولما هاجر جعفر -رضي الله عنه- وبعض المسلمين المستضعفين إلى الحبشة، قرر كفار مكة إرسال رجلين منهم، وهما عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة،
فذهبا وأخذا معهما هدايا كثيرة للنجاشي وكبار القوم عنده، فلما وصلا إلى الحبشة والتقيا بالنجاشي وسمع منهما، استدعى النجاشي المسلمين الذين أتوا إلى بلده مهاجرين.
ودار حوار طويل بين جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- والنجاشي، فقال له: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك،
حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء،
ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
وفي أثناء دخول جعفر -رضي الله عنه- إلى النجاشي سَلَّمَ وَلَمْ يَسْجُدْ، فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَا تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ؟
قَالَ: إِنَّا لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا، وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْجُدَ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (مسند أحمد، حديث «1740» (3/ 263 ط الرسالة)،
وفي هذا الموقف المهيب، قال جعفر رضي الله عنه: إِنَّا لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فيا له من موقف تظهر فيه عزة المسلم.
حبيب بن زيد ومسيلمة الكذاب
لما انتقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى ارتدَّت بعضُ القبائل عن الإسلام، وادعى بعضهم النبوة وعلى رأسهم مسيلمة الكذاب،
واختار النبي -صلى الله عليه وسلم- حبيب بن زيد رضي الله عنه ليحمل رسالته إلى مسيلمة الكذاب، وأخذ حبيب الكتاب من يد النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ومضى به من المدينة إلى اليمامة، حتى وصل إلى مسيلمة.
لما دخل حبيب -رضي الله عنه- على مسيلمة الكذاب ناوله كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنظر مسيلمة في الكتاب فغضب، ثم جمع قومه حوله،
وأوقف حبيب بن زيد بين يديه، وسأله عن هذا الكتاب، فقال حبيب: هو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقال مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله؟. قال حبيب: نعم أشهد أن محمداً رسول الله.
قال: وتشهد أني رسول الله؟ فقال له حبيب مستهزئاً: إن في أذني صمما، فأعاد عليه مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله؟.
قال حبيب: نعم أشهد أن محمداً رسول الله. قال: وتشهد أني رسول الله؟ فقال حبيب: إني لا أسمع شيئاً، فأعاد عليه السؤال فكرر حبيب الجواب.
هنا غضب مسيلمة، وهو يكرر عليه السؤال، فأمر مسيلمة سيافه بقطع يده، ثم قطع رجله، وراح يقطع جسده قطعة قطعة، حتى مات رضي الله عنه. (سيرة ابن هشام (٢/ ٧٨)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (١/ ٣٥٦).
سعد بن معاذ وسعد بن عبادة
روى الطبراني في الكبير، والبزار في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاءَ الْحَارِثُ الْغَطَفَانِيُّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، شَاطِرْنَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ،
قَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ، فَبَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَسَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَسَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَحِمَهُمُ اللهُ،
فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الْحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا، حَتَّى تَنْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ وَحْيٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللهِ، أَوْ عَنْ رَأْيِكَ، أَوْ هَوَاكَ، فَرَأْيُنَا تَبَعٌ لِهَوَاكَ وَرَأْيِكَ،
فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاءَ عَلَيْنَا، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَوَاءٍ مَا يَنَالُونَ مِنَّا تَمْرَةً إِلَّا بِشِرًى، أَوْ قِرًى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : هُوَ ذَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُونَ. (أخرجه البزار والطبراني في الكبير)، بهذا ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة على خلق العزة.
للاطلاع على المزيد: