ما يعين الإنسان على التوبة، وكيف تكون توبة القاتل والزاني؟
الحياة فرصة للإنسان ليتدارك أمره فيحسن عمله ويتوب لربه حتى ينال الخير في الآخرة، والعاقل من تدارك أمره قبل أن يدركه أجله.
التوبة انتباه من الغفلة
قد يصاب الإنسان بالغفلة التي تجعله منشغلا عما ينفعه، ومشغولا بما يضره، فمن الناس من يتدارك أمره قبل أن يدركه أجله، ومنهم من لا يفيق من غفلته إلا في آخرته، ومنهم من يفيق في وقت لا ينفع معه الإفاقة.
قال بعض العارفين إن ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه بقي من عمرك ساعة وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين،
فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ويتدارك تفريطه فلا يجد إليه سبيلاً، وهو أول ما يظهر من معاني قوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)
وإليه الإشارة بقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جاء أجلها).
فقيل الأجل القريب الذي يطلبه معناه أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد يا ملك الموت أخرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي وأتوب وَأَتَزَوَّدُ صَالِحًا لِنَفْسِي.
فَيَقُولُ: فَنِيَتِ الْأَيَّامُ فَلَا يَوْمَ. فَيَقُولُ: فَأَخِّرْنِي سَاعَةً. فَيَقُولُ: فَنِيَتِ السَّاعَاتُ فَلَا سَاعَةَ. فَيُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ التَّوْبَةِ فَيَتَغَرْغَرُ بروحه وتتردد أنفاسه في شراسفه ويتجرع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر.
فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأحوال فإذا زهقت نفسه فإن كان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد فذلك حسن الخاتمة.
وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة وَلِمِثْلِ هَذَا يُقَالُ:
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إني تبت الآن)
وقوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بجهالة ثم يتوبون من قريب)
ترك الكبائر يكفر الصغائر
فمن أحسن في توبته من الكبائر غفر الله له الصغائر فقال الله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كريماً)،
وقال الله: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)
وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الأعمال الصالحة تكفر الذنوب الصغائر إذا اجتنب الإنسان فعل الكبائر فقال صلى الله عليه وسلم:
(الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر)[مسلم]
صيرورة الصغائر كبائر
اعلم أن الصغيرة ربما تتحول لكبيرة وأسباب تحولها لكبيرة الإصرار والمواظبة على فعل الصغائر، لذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار.
فلا تستهن بتلك الصغائر التي تستمر على فعلها، فقطرات الماء إذا توالت على حجر صلد ربما أثرت فيه أكثر من وقوع تلك القطرات دفعة واحدة.
فكبيرة واحدة تقع من العبد ولا تتبعها كبيرة أخرى ربما تكون أهون من صغائر متتابعة مستمرة.
فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (أدومها وإن قل). وقال: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)[البخاري]
وهذا معناه أن النافع من العمل هو الدائم وإن قل، وقليل النفع هو الكثير الذي لا يتتابع، وكذلك القليل من السيئات إذا دام كان تأثيره في إظلام القلب أكثر من الكبيرة المنقطعة.
استعظام الذنب
إن استعظام العبد لذنبه أكبر داع له للخروج من غفلة قلبه، وكلما استعظم العبد جرمه صغر الذنب عند الله، فاستعظامه للذنب دليل على نفور قلبه منه، واستصغاره للذنب دليل على إلف قلبه به.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه،
وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا. قال أبو شهاب بيده فوق أنفه)[البخاري]
ومن ذلك قول الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ
وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
توبة القاتل
من قتل نفسا على سبيل الخطأ فتوبته تكون بتسليم الدية لمستحقها، ومن قتل نفسا على سبيل الخطأ فتوبته تكون بالقصاص.
فإن لم يعرف القاتل ولي الدم فعليه أن يبحث عنه ويمكنه من نفسه فإن شاء ولي الدم عفا عنه وإن شاء قتله، ولا تتم له التوبة إلا بذلك.
توبة الزاني
لا يلزم الزاني لتتم له التوبة أن يفضح نفسه ويهتك ستر الله عليه، بل عليه أن يستتر بستر الله عليه،
ويقيم الحد على نفسه بأنواع من المجاهدة فالعفو في محض حقوق الله قريب من التائبين فإن رفع أمره إلى الإمام أو الحاكم فأقام عليه الحد تكون توبته صحيحة.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن بريدة قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه.
قال: فرجع غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه.
قال: فرجع غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك،
حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله: فيم أطهرك؟ فقال: من الزنى، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون،
فقال: أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أزنيت؟ فقال: نعم، فأمر به فرجم.
فكان الناس فيه فرقتين، قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة.
قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: استغفروا لماعز بن مالك.
قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم.
قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله، طهرني، فقال: ويحك! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه.
فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، قال: وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنى،
فقال: آنت؟ قالت: نعم، فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك. قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت،
قال: فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا، ليس له من يرضعه.
فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها.
الله يفرح بتوبة عبده
الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده؛ لأن العبد إذا تاب إلى الله كان أهلا لرحمته، والله لا يرضى لعباده الكفر حتى لا يعذبهم وإنما يريد لهم الإيمان ليكونوا أهلا لرحمته.
قال الله: (إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمۡۖ وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا. قال أبو شهاب بيده فوق أنفه،
ثم قال: لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده)[مسلم]
يمكنك الاطلاع على المزيد:
تعريف التوبة وشروطها وأسبابها وهل يجب على الله قبولها