هل نهى النبي عن كتابة السنة في حياته؟
من الشبه التي يعتمد عليها من يهاجمون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- قولهم إن رسول الله نهى عن كتابة السنة فلماذا كتبها السلف.
الحكم بالهوى
هؤلاء الذين ينكرون السنة ولا يؤمنون بالضعيف ولا بالصحيح منها، لا مانع عندهم إذا وجدوا حديثا يخدم فكرتهم أن يتبنوه ويعملوا به، ويضربون ببقية الأحاديث عرض الحائط لأنها لا توافق أهواءهم.
هل نهى النبي عن كتابة السنة؟
ورد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي قال همام: أحسبه قال متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).
ما سبب النهي عن كتابة السنة؟
تكلم العلماء عن حديث النهي عن كتابة السنة وقالوا: إنه حديث منسوخ بالأحاديث الكثيرة التي أباحت كتابة السنة.
وذكروا أن النهي عن كتابة السنة كان في بداية الإسلام، وكان بسبب خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يختلط القرآن بالسنة وذلك لأن لفظ القرآن لم يكن قد تمكن من قلوب الصحابة فلما زال المحظور أباح الكتابة.
وقيل: إنما نهى رسول الله عن كتابة السنة بجانب القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط القرآن بالسنة.
قال القاضي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم. فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم.
ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف. واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي.
فقيل: هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة، إذا كتب. وتحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه. كحديث “اكتبوا لأبي شاه” وحديث صحيفة علي رضي الله عنه،
وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات. وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر -رضي الله عنه- أنسا -رضي الله عنه- حين وجهه إلى البحرين.
وحديث أبي هريرة؛ أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب. وغير ذلك من الأحاديث.
وقيل: إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث. وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن. فلما أمن ذلك، أذن في الكتابة وقيل: إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط، فيشتبه على القارئ.
إباحة الكتابة لعبد الله بن عمرو
كان عبد الله بن عمرو بن العاص كثير الكتابة لما يسمعه من رسول الله، وكان رسول الله يعرف ذلك وقد أقره على ما يفعل.
عن عبد الله بن عمرو قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا:
أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق)[أبو داود]
تصريح أبي هريرة عن عبد الله بن عمرو
صرح أبو هريرة -رضي الله عنه- أنه لم يكن أحد أكثر حديثا منه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا عبد الله بن عمرو.
والسبب في ذلك أن عبد الله بن عمرو كان يكتب، وكان أبو هريرة لا يكتب وإنما كان يعتمد على حفظه وذاكرته.
عن أبي هريرة قال: (ما من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب)[البخاري]
وهذا يدل على أن هذا الأمر كان في أواخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن النهي عن كتابة السنة كان في بداية الأمر؛
لأن أبا هريرة كان قد أسلم في العام السابع من الهجرة، والحديث يدل على أنه كان قد جمع الكثير من حديث النبي حتى كان أكثر الصحابة رواية للسنة إلا عبد الله بن عمرو.
وهذا معناه أنه قال هذا الأمر بعد سنين من إسلامه حتى يكون قد سبق الصحابة بسماع الكثير.
وسبب كثرة روايته للحديث لأنه كان ملازما للنبي -صلى الله عليه وسلم- في كل مجالسه؛ لأنه كان من أهل الصفة الذين انقطعوا لسماع العلم من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إذن النبي بالكتابة في آخر حياته
معلوم أن فتح مكة كان في أواخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث فتح مكة في العام الثامن من الهجرة النبوية.
فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وتكلم فطلب رجل من النبي أن يكتبوا له لأنه لا يجيد الحفظ فأمرهم رسول الله بالكتابة له.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما فتح الله على رسول -صلى الله عليه وسلم- مكة، قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
(إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي،
فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد. ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدى وإما أن يقيد).
فقال العباس: إلا الإذخر، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إلا الإذخر).
فقام أبو شاه، رجل من أهل اليمن، فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اكتبوا لأبي شاه).
قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله، قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.[البخاري]
صحائف الصحابة
كان بعض الصحابة لهم صحائف كتبوا فيها أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته، فلو كانت الكتابة ممنوعة لما كان هؤلاء الصحابة هم أول من يخالف كلام نبيهم، وإنما عرف عنهم أنهم كانوا أكثر الناس اتباعا والتزاما لكلام نبيهم.
عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة.
قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر)[البخاري]